ارشيف من : 2005-2008

بين قمتي كييف وسوتشي:من يملك الأدوات يفرض القرار

بين قمتي كييف وسوتشي:من يملك الأدوات يفرض القرار

كتب طه عبد الواحد (*)‏

الأمن الطاقي والعلاقة مع روسيا وحل أزمات الأقاليم المنادية بالانفصال عن الجمهوريات التي تبعت لها منذ العهد السوفييتي كانت المحاور الرئيسة التي بحثها المجتمعون في كل من كييف حيث انعقدت قمة دول منظمة غوام، وفي سوتشي حيث انعقدت قمة دورية بين روسيا وممثلي الاتحاد الأوروبي. لكن بحث المحاور نفسها لا يعني بالضرورة تشابه الأهداف في القمتين، فالأولى غرضها تشكيل تكتل دولي لمجموعة الجمهوريات السوفييتية السابقة التي تبنت نهج الاندماج مع الغرب، أما القمة الثانية فكانت بمثابة خطوة هامة على درب تنظيم العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي في أكثر من مجال، مع تركيز الوفد الأوروبي على موضوع الأمن الطاقي للقارة الأوروبية، وتركيز روسيا على ضرورة تبني نظام قيم ومعايير موحد لحل كل الأزمات الإقليمية.‏

في كييف العاصمة الأوكرانية التي شهدت قمة منظمة غوام في نهاية أيار 2005، كان تشكيل منظمة دولية جديدة هدفها الرئيس العمل من أجل الإسراع بالاندماج مع الناتو هو الموضوع الرئيس للقمة. ولعل أهداف القمة المذكورة تدل على حدوث انقسام داخل منظمة رابطة الدول المستقلة التي تجمع كل الجمهوريات السوفييتية باستثناء جمهوريات البلطيق، إذ تُظهر القمة محاولات حشد الصفوف في المعسكر المبتعد عن توطيد العلاقات مع روسيا، بينما تؤكد لقاءات الرئيس بوتين مع قادة بعض جمهوريات الرابطة توطيد موسكو لعلاقتها مع تلك الدول التي ما زالت ترى في روسيا حليف وجار تاريخي لن يأتي توتير العلاقات معه بنتائج إيجابية على الأوضاع في الفضاء السوفييتي السابق.‏

مبادرة تحويل غوام إلى منظمة مسجلة دولياً وجدت ترحيباً لدى قادة بعض دول حلف وارسو السابقين، الأعضاء الجدد في الناتو الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى دعم وتأييد من واشنطن والاتحاد الأوروبي، هذا ما تؤكده مشاركة ممثلي الاتحاد الأوروبي ووزارة الخارجية الأمريكية في أعمال المنظمة. من جانب آخر فقد أعلن سفير رومانيا في العاصمة الأذربيجانية باكو أن بلاده ترغب بالحصول على عضوية غوام، ولما كانت رومانيا عضو في الناتو فإن نيتها الحصول على العضوية في المنظمة الجديدة تحمل الكثير من الدلالات لعل أهمها تأكيد دعم حلف الناتو للمبادرة الأوكرانية- الجورجية بإقامة تحالف بين مجموعة دول النهج الغربي، على أمل أن تجد هذه الدول مخارجاً من أزماتها بعيداً عن التدخل والدور الروسيين.‏

بأي حال فإن قادة دول غوام المنظمة التي أصبحت تحمل اسم (غوام – من أجل الديموقراطية والتطور) أكدوا أن تأسيس منظمتهم لا يهدف إلى إيجاد بديل أو منافس لرابطة الدول المستقلة، هذا على الأقل ما قاله الرئيس الأوكراني فيكتور يوشينكو. لكن التناقض في وجهات النظر والكشف عن حقيقة ما يجري بدا جلياً بعد تصريحات وزير الخارجية الأوكراني بوريس تراسيوك الذي أكد أن منظمة غوام هي نتاج لعدم فاعلية رابطة الدول المستقلة. فالهدف إذاً إيجاد منظمة بديلة ومنافسة.‏

ما يؤكد صحة هذه الرؤية جملة المواضيع التي تم البحث فيها أثناء القمة، فالمجتمعون تناولوا قضية الأزمات (المجمدة)، أي النزاعات الدائرة في كل من ملدافيا وجورجيا، مع إقليم بريدنيسروفيا في الأولى، وجمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الشمالية في الثانية، فالأقاليم الثلاثة المذكورة ترفض منذ سقوط الاتحاد السوفييتي الانضمام لهاتين الجمهوريتين، وشعوب هذه الأقاليم تطالب بالانضمام إلى روسيا والانفصال عن ملدافيا وجورجيا. ولما كانت رابطة الدول المستقلة هي الجهة الرئيسية التي وضعت حداً لفتيل الحرب التي دارت في تلك الأقاليم، وشكلت قوات سلام للفصل بين الأطراف المتنازعة، فإن البحث عن حلول لهذه الأزمات في أروقة أخرى يعني بالتأكيد البحث عن بديل لرابطة الدول المستقلة قادر على تحمل مسؤوليات الرابطة والإضعاف من قدراتها.‏

أما الجوانب الأخرى التي تم بحثها في كييف فهي تتناول التعاون الاقتصادي بين دول المنظمة بما في ذلك التعاون في مجال الطاقة وسن أنظمة جمركية تشجع التبادل التجاري بينها، لتعويض النقص الناتج عن تراجع حجم تبادلها التجاري مع روسيا. ويشير المحللون إلى أن كل ما قد تتخذه هذه المنظمة من خطوات في شتى مجالات علاقاتها المشتركة، لن يمكنها من وضع أسس لتكتل سياسي أو اقتصادي جديد قادر على منافسة التكتلات التي أسستها مع روسيا مع الدول الصديقة لها. فدول منظمة غوام باستثناء أذربيجان ليست مصدرة للطاقة، وما تنتجه أذربيجان من نفط وغاز لن يغطي احتياجات دول المنظمة لاسيما وأن طرق الإمداد من أذربيجان إلى أوكرانيا وملدافيا لن تكون دون عبور الأراضي الروسية. أما فكرة مد خط عبر جورجيا –البحر الأسود- أوكرانيا فهي مشروع مستحيل لعجز هذه الدول عن تمويل إنشائه.‏

وبينما هم في كييف يبحثون في كل هذه القضايا التقى الرئيس بوتين مع ممثلي الاتحاد الأوروبي في مدينة سوتشي الملطة على البحر الأسود والمعروفة تاريخياً كمنتجع رئيسي للقادة السوفييت وقادة روسيا من بعدهم. في تلك المدينة بحثت القيادة الروسية مع الجانب الأوروبي قضايا على درجة من الأهمية في العلاقات الثنائية، ليست بعيدة عن التأثير على مجمل ما يجري في المنطقة، بما في ذلك على تشكيل منظمات جديدة يراد منها إيصال رسائل إلى أوروبا بوجود قوى داعمة لها بالجوار الروسي.‏

لكن الأغلب أن التسابق في إعلان الولاء لأوروبا في قمة كييف التي تبدو مثل قمة الصغار مقارنة مع قمة سوتشي، لن يأتي بالنفع لأصحاب القمة الأولى، لأن روسيا ما زالت ترفض توقيع الاتفاقية الأوروبية التي تنظم تصدير الغاز من روسيا وطرق نقله، فالجانب الروسي يرى أن هذه الاتفاقية تتنافى مع مصالحه لأن مسائل تصدير الغاز بموجبها وتوزيعه في الأسواق الأوروبية سيصبح خاضعاً لفقرات الاتفاقية وقوانين الاتحاد الأوروبي، وهذا يعني إصرار روسيا على امتلاك زمام المبادرة في شأن الطاقة، وإمكانية استخدامها أداة في سياستها الخارجية، بما في ذلك نحو دول غوام. أما بالنسبة لبحث المجتمعين في كييف عن مخرج للنزاعات (المجمدة) فإن ما اتخذوه من قرارات لن يترك الكثير من الأثر لأن الرئيس بوتين أصر أثناء محادثاته مع ممثلي الاتحاد الأوروبي على ضرورة التعامل مع الأزمات في كل من بريدنيستروفيا وأبخازيا وأوسيتيا الشمالية وفق المعايير الأوروبية والسماح بإجراء استفتاء جماهيري تحدد فيه شعوب تلك الأقاليم مصيرها إما ضمن الجمهوريات التي يتنازعون مع سلطاتها حالياً، أو بالاستقلال التام، أو الانفصال والانضمام إلى الاتحاد الروسي. وإلى أن يتم حل موضوعي الطاقة والأزمات المجمدة فإن نتائج قمة كييف تبقى عاجزة عن فرض قرارتها لعدم امتلاكها أدوات تجعل القرارات تدخل حيز التنفيذ، بينما تتمكن موسكو من فرض بعض الإملاءات لأنها تملك أدوات تجعلها مصدر قرار.‏

(*) كاتب صحافي متخصص بالشؤون الروسية‏

2006-10-30