ارشيف من : 2005-2008
فرنسا في الجزائر: "جرائم"، "فرانكوفونية" أو أمر بين الأمرين
كتبت: ياسمينة صالح
مرة أخرى، يعود الكلام نفسه إلى السطح. و مرة أخرى، حين يتعكر مزاج الرئيس الجزائري يطالب الفرنسيين بالاعتراف بماضيهم الاستعماري في الجزائر، و حين يصفو المزاج يعود الرئيس الجزائري نفسه لمخاطبة شعبه بالفرنسية كما لو كانت الفرنسية "تركة الأجداد" يتوجب المحافظة عليها !
الرئيس الجزائري الذي عاد غاضبا من فرنسا بعد رحلة طبية انتهت إلى حملة إعلامية كبيرة شنتها الصحف اليمينية الفرنسية ضده معتبرة وجوده على التراب الفرنسي غير مرغوب فيه، لا لشيء سوى لأن الرئيس الجزائري أصر بأنه من حق الجزائريين أن تعترف فرنسا بما ارتكبته ضدهم إبان الاحتلال الذي دام أكثر من 130 سنة، ثم حين عاد الرئيس إلى الجزائر، تحول الغضب إلى حملة مضادة أيضا ضد فرنسا، و إن اعتبر العديد من الملاحظين الأمر أشبه بلعبة القط و الفأر بين الجزائر و باريس، إلا أن التناقض ظل سيد الموقف، لا لشيء سوى لأن الحملة التي شنتها الجزائر كانت تفتقد لمبادرات حقيقية يمكن عبرها وضع حد لكل الاستهتار الذي مورس ضد الجزائريين فيما يخص اللغة العربية مثلا، و فيما يخص حق الشعب في أن يدافع عن مكتسباته و قيمه بعيدا عن النخبة المفرنسة التي ظلت تقود البلاد نحو التهلكة، و نحو الفرانكفونية المغلفة بجملة من الخطابات التي لم تكن في النهاية سوى رؤوس أقلام للعديد من الإسقاطات التي جعلت الجزائر اليوم تثير كل هذا الجدل بين ما يريده الشعب، وما تريده النخبة الحاكمة !
نفاق فرنسي قانوني !!
ما يثير الاستغراب في التعاطي الفرنسي مع الاحتلال هو نظرة الرسميين الفرنسيين إلى الحقبة الكولونيالية إبان الحرب العالمية الأولى والثانية، ففي شهرشباط/ فبراير من السنة الماضية، صدر قانون فرنسي يلزم النظام المدرسي على غرس في نفوس التلاميذ الفرنسيين قناعة مفادها أن الوجود الفرنسي عبر البحار كان إيجابيا و إنسانيا، وهو الذي يعني أن الاحتلال الفرنسي للعديد من الدول شمال الإفريقية يوضع في خانة " الإنساني و الايجابي" ضمن قانون تمجيد الاحتلال الذي صادق عليه البرلمان الفرنسي و بشكل قاطع. كان ذلك القانون بمثابة القشة التي قصمت الظهر، حين تحولت النظرة الكولونيالية الاحتلالية إلى سياق "حضاري" في مخيلة الفرنسيين الذين دافعوا عن تلك المادة و اعتبروها واجبا وطنيا، و هو الشيء الذي أثار غضب المهاجرين الذين وجدوا أنفسهم بين المطرقة و السنديان، حين أحالتهم القوانين الفرنسية على الحصار النفسي و القانوني، ونبذتهم كمهاجرين قدموا من الدول التي تتباهى فرنسا بأنها احتلتها " إنسانيا" من قبل !
فرنسا التي تمجد الاستعمار تحت سقف " المسؤولية السياسية !" و الحق الحضاري في التعامل مع الحقب التاريخية، هي ذاتها فرنسا التي رفضت الاعتراف بجرائمها في الجزائر، بكل الجرائم التي خلفت الملايين من القتلى أيضا. ربما لأن الفرنسيين أنفسهم رفضوا مجرد تذكر تاريخ الثامن من أيار/مايو 1945 الميلادية، حين قررت الشرطة و بأمر من الجيش الفرنسي آنذاك إطلاق النار على متظاهرين جزائريين في مدن جزائرية، لأنهم أرادوا المطالبة بحقهم في الاستقلال و في الحياة. كانت تلك المجزرة الفرنسية ـ التي خلفت أكثر من 48 ألف قتيل جلهم من الأطفال و من النساء ـ بمثابة الشهادة التاريخية الكبيرة أن فرنسا مجرمة حرب بكل ما تعنيه هذه الكلمة، و لهذا السبب لم يرغب الفرنسيون قبل أيام فقط، مجرد الحديث عن تاريخ الثامن من أيار/مايو، و ذهبوا إلى حد اعتبار أن الاستعمار ساهم و بشكل مباشر في "تثقيف" الشعوب التي دخلتها فرنسا، و أن "استقلال" تلك الشعوب لم يكن في الحقيقة إلا لأن فرنسا أرادت ذلك !! وهو ما ساهم في حالة الاحتقان التي يعيش فيها المهاجرون أمام قرار الداخلية بفرض حالة من " التصفية" لأجل إبعاد أولئك الذين تعتبرهم غير شرعيين في بقائهم في فرنسا، أي أنه الشيء نفسه الذي قامت به الولايات الأمريكية لأجل محاصرة المهاجرين و مراقبتهم، و التجسس على مكالماتهم و على بريدهم الالكتروني، و بالتالي تصفيتهم بالطرق القانونية، أي طردهم دونما أي مقابل و لا حتى تعويض مهما كان نوعه.. من جهته، أصدرت الداخلية الفرنسية قانونها "المبطن" بتجريم كل الصحف، و وسائل الإعلام التي تدان بتهمة معاداة السامية، هذا القانون كان في الحقيقة مجرد مطلب صهيوني قاده اللوبي اليهودي الصهيوني في فرنسا منذ سنة 1986، و قد وصل الأمر إلى تشريع قانوني ذهب ضحيته العديد من الإعلاميين الذين طردوا من وظائفهم بتهمة معاداة السامية، تماما كما حدث مع مدير إذاعة فرنسا الدولية " ألان مينارغ" الذي طرد من منصبه لأنه ذكر في تصريح له أن "إسرائيل" مجرمة حرب جراء الإبادة التي ترتكبها ضد المدنيين الفلسطينيين، و الحال أنه التصريح الذي كاد يؤدي إلى سجنه، و أدى إلى طرده من منصبه و محاصرته إعلاميا كي لا يعمل في أي جهة أخرى، كما أن المفكر المعروف" روجيه غارودي" تعرض لكل أنواع الإهانات في فرنسا لأنه شكك في حكاية "الهولوكوست" اليهودي، و لأنه أصر على أن الصهاينة سواء المتواجدين في فرنسا أو خارجها يشكلون خطرا فكريا و سياسيا على أوربا و على العالم، هي الحقيقة التي أغضبت الفرنسيين و جرت "جارودي" إلى المحاكم.
فرنسا الحريات المغتصبة !
لعله من المثير للسخرية أن تدافع فرنسا اليوم و بشكل غريب عن قناعة الأرمينيين بأن الأتراك ارتكبوا إبادة جماعية ضدهم في العشرينات من القرن الماضي. انفجار قضية الأرمن لم يكن في الحقيقة سوى بدافع انتقامي فرنسي، لأن الحزب الفرنسي الحاكم هو الذي وقف أول مرة مع الأقلية الأرمينية في فرنسا لأجل " معاقبة" الأتراك الذين "أحرجوا" الفرنسيين كثيرا، بالخصوص بعد أن كانت تركيا خلف ما عرف في عام 2003 بـ"أصدقاء" الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، و الحال أن عبارة "أصدقاء" ورطت العديد من الشخصيات الدولية بأنها كانت تتلقى و تقبض ملايين الدولارات من الديكتاتور العراقي كرشوة "سياسية" مقابل خلق مجالات تحرك كانت من خلالها شخصيات عراقية تبيع النفط و تقبض بموجب ذلك عبر حسابات تمتلكها في العديد من البنوك من بينها بنوك فرنسية و بعلم السلطات الفرنسية نفسها كما نشرت الصحف التركية وقتها.
تلك الفضيحة التي كان الأتراك وراءها جعلت الحرب الخفية تصل إلى أقصاها حين فتحت تركيا أجواءها للطيران الأمريكي لضرب مناطق إستراتيجية من ضمنها بعض الشركات الفرنسية التي كانت تنشط في العراق. ناهيك على الحملة التركية ضد الفرنسيين التي دامت أكثر من عشرة أعوام. كل ذلك جعل الفرنسيين يشنون حروبا مغايرة على الأتراك، بحيث كان يكفي أن تقف فرنسا و بموجب مادة برلمانية رسمية و تعلن موقفها من الأتراك والجرائم بحق الأرمن إبان العشرينيات من القرن الماضي لتصبح للأمور رؤية مغايرة، ليس لأن الحكاية لا أساس لها من الصحة، بل لأن فرنسا المتباكية على الأرمن نسيت مجازرها الرهيبة المرتكبة في العديد من الدول إبان حقب الاحتلال الكولونيالي، و التي تعد بالملايين الملايين من الضحايا، ناهيك على الاحتلال الأبيض لغويا و سياسيا الممارس إلى الآن على العديد من الدول الإفريقية.. و الحال أن بين الاحتلال الحقيقي و الاحتلال الأبيض تنتصب العديد من الجرائم الفرنسية بحيث يصبح من الصعب طي الصفحة من دون مساءلة و البحث عن الحقيقة..
معركة الجزائر الحديثة !!
اليوم، إصرار الرئيس الجزائري كي تعترف فرنسا بماضيها الاستعماري الإجرامي في الجزائر يبدو غامضا و غير مفهوم بالرغم من شرعية وأحقية ذلك المطلب الذي يريده كل الجزائريين، لأنه صار من حق الجزائريين أن يضمنوا لأبنائهم تاريخا يبدأ باعتراف فرنسي بكل ما ارتكبوه ضد أجدادهم، بيد أن التناقض القائم في تعاطي السلطة الجزائرية مع أهم القضايا المرتبطة بالبلاد هو الذي يثير الكثير من التساؤلات، فأن يهاجم الرئيس الجزائري فرنسا و يطالبها بالاعتراف بجرائمها في الوقت الذي يلقي فيه خطاباته بالفرنسية، و أن تساهم النخبة الحاكمة المرتبطة فكريا و ثقافيا و لغويا بفرنسا في تعطيل قوانين جذرية، كقانون التعريب مثلا، و أن يتم محاصرة أولئك الذين يدافعون عن مكاسب الاستقلال في الوقت الذي تكرم فيه النخبة الفرانكفونية المخربة فذلك هو التناقض الرهيب الذي جعل فرنسا تستهزئ من المطالب الجزائرية اليوم بل و تضحك على ذقون الجزائريين عبر رسومات الكاريكاتير في الصحف الفرنسية توضح فيها مطالبة الجزائر اعتراف فرنسي بالاحتلال في الوقت الذي يتكلم مع صديقه بالفرنسية، ناهيك على أن الإعلام ما زال يذكر الناس بصور الجزائريين الذين خرجوا عام 2003 لاستقبال الرئيس الفرنسي في الجزائر كما لو كان "بطلا" أو "فاتحا" متناسيين تماما أن الإعلام الفرانكوفوني هو الذي صاغ الأمور بعبارة "شيراك الجزائري" التي ضحكوا بها على الجزائريين لأجل مزيد من التغريب و من التهميش و من الاحتلال" الأبيض"، و إن تبدو السلطات الرسمية و الإعلامية و الحزبية ساخرة من المطالب الجزائرية الراهنة، فلأن الذين قادوا الجزائر إلى هذه الحالة من التغريب أرادوا من البداية عزل البلاد عن موقعها العربي و الإسلامي، و لأنهم أيضا أرادوا أن تكون الجزائر محمية فرنسية، وفق الظروف المتغيرة التي صنعت للأسف الشديد هذه الأخطاء الرهيبة التي على أساسها صار الجزائري يدفع الثمن اليوم سواء ذلك المتواجد في الجزائر أو ذلك المتواجد في فرنسا بحكم ظروفه، لأن عبارة "جزائري" صارت تثير الكثير من الحساسيات في فرنسا، باعتبار أن أولئك الذين يديرون الدفة هنا و هناك أرادوا وضع الشعب في هذا الموضع، أي تحويله إلى مجرد قطيع لا يحق له المطالبة بأكثر مما يعطه الأسياد له، و لا يحق له أن يطالب شيء طالما الاحتلال الفرنسي ما يزال قائما، و طالما النخبة الفرانكفونية الحاكمة لم تتغير !
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018