ارشيف من : 2005-2008
رسائل مبطنة في خطاب بوتين السنوي ـ 13/5/2006
كتب طه عبد الواحد(*)
كان الخطاب (التقرير) السنوي الذي ألقاه الرئيس بوتين أمام المؤسسات الحاكمة التشريعية والتنفيذية (البرلمان، مجلس الشيوخ، الحكومة) خطاباً مميزاً بحجم المواضيع التي تناولها واللهجة التي استخدمها، فبدا وكأنه خطة عمل وضعها الرئيس وعرضها أمام الجهات المعنية لتباشر بتنفيذها، مشيراً إلى أن الكثير من أهداف السياسة الروسية التي تحدث عنها في خطاباته السابقة لم تنجز بعد، ما اعتبره البعض انتقاد غير مباشر للسلطات التنفيذية، وتحذير من مغبة عدم الإسراع بتنفيذ ما تم عرضه من مقترحات في الخطاب قبل الأخير له كرئيس لروسيا.
الوضع الداخلي وضرورة حل المشاكل الاقتصادية التي تواجهها الأسرة في روسيا، احتل المساحة الرئيسية من الخطاب السنوي للرئيس الروسي، فروسيا الدولة التي مازالت تطمح إلى استعادة مكانتها الدولية تواجه اليوم تحدياً ديموغرافياً يهدد بقائها، نتيجة تراجع نسبة الولادات وارتفاع نسبة الوفيات. فأشار بوتين إلى أن عدد سكان روسيا يتراجع سنوياً بـ 700ألف مواطن، ولحل هذه المشكلة اقترح مجموعة من الخطوات أهمها رفع قيمة المساعدات الاجتماعية للأسرة والعمل على وضع حلول ملائمة لأزمة السكن، وما إلى ذلك من خطوات. من جهة أخرى ركز على التعليم وضرورة الارتقاء إلى المستوى الذي يتناسب مع تحديات العصر ويؤمن لروسيا تفوقاً تقنياً وبحثياً علمياً. هذا كله لم يكن بمعزل عن الفقرات اللاحقة التي تناول فيها بوتين أهمية تطوير الجيش الروسية ورفع قدراته القتالية إن كان ذلك على صعيد تنمية قدرات الأفراد، أو على صعيد تزويد الجيش بالتقنيات العسكرية الحديثة التي تسمح لروسيا بالحفاظ على التوازن الاستراتيجي.
ومن وجهة نظر الرئيس الروسي فإنه: «على خلفية التهديدات الخطيرة التي يواجهها العالم، مثل الإرهاب الدولي،(سقطت) قضايا نزع التسلح من الأجندة الدولية، هذا في وقت يبدو الحديث فيه عن انتهاء سباق التسلح سابق لأوانه». بعد ذلك أشار بوتين إلى ما يسببه هذا الوضع الدولي من خطر على الاستقرار في العالم، وفي ما يمكن قراءته كإشارة مبطنة إلى التوتر بين واشنطن وطهران، وما قد تؤدي إليه مغامرة عسكرية أمريكية ضد الجمهورية الإسلامية قال بوتين: «...زد على ذلك أن بعض وسائل الإعلام وبين بعض الخبراء يتم الحديث عن احتمال استخدام الصواريخ العابرة للقارات غير المحملة برؤوس نووية. إن إطلاق صواريخ من هذا النوع قد يواجه برد حازم من قبل القوى النووية العظمى، بما في ذلك توجيهها ضربات رد واسعة مع استخدام الأسلحة النووية». ونظراً لأن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي يمكنها استخدام هذا النوع من الصواريخ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن واشنطن لن تلجأ إلى استخدام هذا النوع من الصواريخ في المرحلة الحالية إلا لاستهداف إيران فإن ما قاله يبدو أشبه برسالة مبطنة إلى القيادة الأمريكية يحذر فيها من مغبة اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية لحل أزمة الملف النووي الإيراني، والأغلب أن روسيا لن تقف صامتة في حال قررت واشنطن القيام بخطوة تهدد الأمن القومي الروسي عبر السيطرة على إيران ومن خلالها على دول حوض قزوين، مع ما سيتركه ذلك من تبعات على مجمل ما أنجزته روسيا في مجال استعادة نفوذها في آسيا الوسطى من جانب أول، مع تزايد نفوذها الطاقي وسيطرتها على مصادر الطاقة وطرق نقلها من جانب آخر.
ومتابعة لتوضيحه الأسباب التي تجعل من تطوير القدرات القتالية للجيش الروسي واحدة من المسائل الرئيسية في خطة العمل للسنوات القادمة، أشار الرئيس بوتين إلى أن كثيرين لم يتمكنوا بعد من التخلي عن التعامل مع الأمور بعيداً عن سياسة (التحالفات والأحلاف) التي ورثها العالم من حقبة الحرب الباردة، مشيراً بالتأكيد إلى إصرار الناتو على البقاء كحلف عسكري واستمراره بالتوسع، واعتبر أن هذا الأمر يشكل واحد من الأسباب الرئيسية التي تفرض على القيادة الروسية أن تعمل جاهدة من أجل رفع قدرات القوات المسلحة.
ما لم ينساه الرئيس بوتين هو الإشارة إلى ما تم تحقيقه من منجزات خلال عهده، فهو أشار بعبارة واضحة إلى أنواع جديدة من الغواصات الاستراتيجية التي يتم تزويد الجيش الروسي بها لأول مرة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، وكذلك الأمر بالنسبة لنوعين من الصواريخ الاستراتيجية اللذان سيشكلان حجر الأساس في نظام الردع النووي الروسي. إجمالاً فإن ما قاله بوتين في شأن التسلح وتحديات العصر يحمل إشارات واضحة إلى الولايات المتحدة، فهي التي ما زالت تصر على بناء الدرع الصاروخية، وهي التي تلوح بالقوة العسكرية لحل أزمة الملف النووي الإيراني، وهي التي انسحبت من اتفاقية عام 1972 للحد من الأنظمة الصاروخية المضادة للصواريخ، وهي بهذا كله تبقي العالم تحت تهديد الوقوع في فوضى والانجرار إلى سباق تسلح أكد بوتين أن الحديث عن انتهائه سابق لأوانه.
الأغلبية من المتتبعين لسياسة الرئيس بوتين خلال السنوات الماضية يؤكدون أن روسيا ستحقق القسم الأكبر من الأفكار التي اقترحها، والأغلب أن اللهجة الحادة في خطابه ستقترن خلال العامين القادمين بخطوات عملية لعلها تعيد لروسيا ما تسعى إليه من دور وحجم دوليين وتحقق للعالم التوازن الذي فقده منذ قرابة الخمسة عشر عاماً.
(*) كاتب صحافي مختص بالشؤون الروسية
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018