ارشيف من : 2005-2008

انهيار الطبقة الوسطى في فرنسا ـ 15/5/2006

انهيار الطبقة الوسطى في فرنسا ـ 15/5/2006

كتب توفيق المديني‏

لعقود من الزمن ، كان الاعتقاد السائد و المترسخ في المجتمعات الغربية أن الطبقات الوسطى هي بعيدة كل البعد عن المصاعب الاقتصادية التي تعاني منها الطبقات الشعبية.أما الآن، في الزمن الرأسمالي العولمي، هناك جيل من الشباب من حملة الشهادات الجامعية أصبح يخاف من أن يجد فرصة عمل ، سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص.‏

وتظهر لنا الصورالإشعاعية الحديثة للتشقاقات التي أصابت المجتمع الفرنسي أنها لا تترك مجالا للتفاؤل بتجبيرها قريبا.ومن فضائل المسلسل الربيعي "لعقد العمل الأول" الخاص بالشباب، الذي يسمح للشركات بطرد العمال الشباب من العمل خلال عامين من عقد الخدمة الأول من دون إعطاء اي سبب،أنه أظهر بجلاء المرض الفرنسي :اليوم المسألة الاجتماعية لم تعد تتموقع ببساطة في المحيط ، وفي هامشية أقسام من طبقةغير مؤهلة، و لا كذلك أيضا في ضواحي النفي والإبعاد، أوفي انشقاقات النخبة، و لكنها في قلب المجتمع الفرنسي ، وفي نواته الصلبة، أي الطبقات الوسطى.‏

إن الأمر يتعلق اليوم بالشباب حملة الشهادات الجامعية المتحدرين من فئات وسيطة باتوا يرون اختفاء تحت أقدامهم أثار المسيرة للدخول إلى الطبقات الوسطى.و يعيش هؤلاء الشباب هذ ا الانقلاب بوصفه خطراللسقوط في زمن التشكك، من دون مستقبل و لا عودة،حيث يشهد أبائهم على انطفاء مشروع اجتماعي كان مظفرا في الماضي.وقد تطلب هذا الأمر عشر سنوات لإظهار هذه الديناميكية الجديدة بوضوح، المنصبة في الحقائق الموضوعية منذ وقت طويل ، ولكن قدرة الفرنسيين على الإنكار كانت تمنعهم من رؤية ذلك جيدا.‏

ويظهر هذا الانقلاب الديناميكي في سياق، حيث، و لعدة عقود،كانت الطبقات الوسطى تشكل الحلقة الصلبة للمجتمع الفرنسي.و كانت تعتبر الطبقة المرفهة، المحمية والمدللة،المتموقعة بعيدا فوق ركام المصاعب الذي تعاني منه الطبقات الشعبية.ففي نوفمبر عام 1994، عندما كان جاك ديلور، الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية السابق، و المرشح للانتخابات الرئاسية في عام 1995 ، دق جرس الإنذار في فرنسا بقوله: "هناك ثلثان يعيشون إلى حدما بشكل جيد،و لكن من دون الاهتمام بأولئك الذين يتركونهم على قارعة الطريق: أما القسم الثالث، فهو يتضمن المطرودين ، و المهمشين، و فاقدي الأمل".‏

إن الافتراض المسيطر"لهيمنة الطبقة الوسطى" الغالية على قلب عالم الاجتماع الفرنسي هنري مندراس(1927-2003)، يرتكزعلى أنه فقط هناك أقلية من المطرودين من جهة، و قسم قيادي من جهة أخرى ، يفلتان من مجتمع قائم على ثلثين من المستفيدين ، مع وجود في مركزه، طبقة وسطى مسيطرة ، و راضية عن نفسها، و متحكمة في مصيرها الاجتماعي، وتتقاسم ثقافة أمنية و ثقة في المستقبل.‏

و يتساءل المحللون الفرنسيون ، هل إن هذا التوصيف الاجتماعي للطبقة الوسطى يتوافق اليوم مع 70% من السكان ، أو بالأحرى مع 10%؟و يبدو أن الكل يشير إلى أن هذه النواة الصلبة من الطبقة الوسطى، التي تحصل بشكل مثالي على راتب شهري بنحو 2000يورو ، عليها أن تواجه قلقا حقيقيا ، و صعودا سريعا للصعوبا ت، التي ظلت مقتصرة حتى الوقت الحاضر، على الأشخاص الذين لا يحملون شهادات جامعية، و غير مؤهلين ، و على الطبقات الشعبية.و يبدو أن القسم الأعلى من الطبقة الوسطى لا يزال سالما دائما، بيد أن التآكل يستمر في ضرب القسم المحتجب و يعده بانحطاط قريب.‏

هل هذا الأمر هو قدر؟‏

المعطيات المتنوعة تظهر استقرارا ملحوظا لعدم المساواة في فرنسا منذ خمس وعشرين سنة،و تجانسا نسبيا للطبقات الوسطى ، على نقيض البلدان المتطورة الأخرى، حيث الديناميكيات فيها واضحة ومتواطئة .و بينما نجد في الولايات المتحدة الأمريكية ، و في بريطانيا ، و حتى أيضا في السويد و بلدان أخرى ، مواجهة حقيقية لتفاقم عدم المساواة الاقتصادية الذي لا يمكن إنكاره ، والذي يترافق مع ظاهرة تقلص طبقاتهم الوسطى، نجد على عكس ذلك جمودا في فرنسا.‏

و إذا كان عدد الفقراء أصبح كثيرا منذ عشرين سنة، فإن الفقراء لم يعودوا هم أنفسهم .ومنذ عهد قريب، الأمر يتعلق بالفقراء القديمين الذين سيختفون قريبا. أما اليوم ، فالفقراء هم قبل كل شيءمن الشباب الحالمين بالمستقبل في الفقر.‏

إن ديناميكية عدم المساواة في فرنسا هي متشابهة: إذا كانت أجيال ما قبل عام 1920 من القر ن الماضي ، كان من المبكر عليها أن تستفيد من دولة الرفاهة الكينزية فعليا ،و مجتمع أكثر مساواة، لذلك استقطبت بحدية بين طبقة بروليتارية مستغلة و طبقة برجوازية من الوارثين،فإن أجيال التي ولدت ما بين 1925 و1950قد عرفت التوسع المكثف للأجراء المتوسطين ، و أفاق الحراك التصاعدي تاريخيا و استثنائيا،سواء على المستوى الاجتماعي أو على المستوى الاقتصادي، إذ إن الفئات الاجتماعية الأكثر تواضعا استفادت من زيادة الأجور بصورة جوهرية، كما وضحها توماس بيكينتي في كتابه بعنوان:" الدخول المرتفعة في فرنسا في القرن العشرين، 1901-1998، غراسيت، 2001".‏

لقد أسهم انبثاق المجتمع الأجير،و التوظيف الكامل، و نهاية الفلاحين وذوي الدخول الصغيرة،وزيادة مدة الحياة، و تعميم الضمان الاجتماعي بصورة سخية، و بكل تأكيد،والضريبة التدرجية، في رفع الأرضية الاجتماعية،و تخفيض السقف،حيث ظهرت طبقة وسطى كبيرة ، مضغوطة بين هذين الحدين، و متجانسة إلى حد كبير.‏

و بالمقابل فإن الأجيال التي ولدت لا حقا أصبحت معرضة للانقلاب التاريخي ، في ظل انتصار العولمة الرأسمالية . فهي لم تعد تكتفي بالتصدي للأجور التي توقفت عن الارتفاع منذ جيل كامل تقريبا( بينما استمرأسلافهم في التقدم): بل إنها عرفت إضافة إلى ذلك درجة عالية من عدم المساواة لأسلافهم من نفس العمر.و هكذا ،فإن القسم السفلي من الأجيال الجديدةيفكّ و القسم العلوي ينزع إلى ضبط استقرار وضعه، بينما القسم الوسط هومقطع أوصاله بين هذين القطبين.‏

في ظل البيروقراطيات الكبيرة و زيادة الخبرةالصناعية و الدولنية تطورت فئات متوسطة من عيارات مختلفة. بالنسبة لدولة الرفاهة الكينزية، هذه المجموعات الاجتماعيةهي من الأهمية بمكان لأنها توفر يد عاملتها في الوقت عينه، حيث تشكل غالبا ، أحسن مساندة للنظام.و نحن نعرف أيضا كيف أنه في سنة 1914 قد قرعت جرس هذه الطبقة نفسها، في كارثة انتحارية لثلاثين سنة.‏

وجاء دور فرنسا في عقد الستينيات من القرن الماضي ، لكي تعرف بصورة متأخرة ، هذا التوسع " للطبقات المتوسطة الجديدة من الأجراء"(حسب تعبير المفكر الفرنسي ألان تورين في عام 1968),.وقد طبعت هذه الحركة الفئات الاجتماعية المتوافقة مع الأقسام ب من الوظيفة العمومية، من المعلمين إلى الممرضات و العمال الاجتماعيين، و التقنيين،الذين يحصلون على رواتب تقع اليوم فوق 1500 يورو شهريا، وهم موظفون في القطاع العام،و الشركات الكبيرة او المجموعات المحلية.‏

ماذا جرى في فرنسا منذ عشرين سنة؟ ما بين المراكز الجديدةالشاغرة و المرشحين الشباب سريعي التأثر بالمطالبة-بالنظر إلى شهاداتهم الجامعية، و أصلهم الاجتماعي، و أنواعهم-تشكل شرخ واسع.بالنسبة للأجيال التي تتراوح أعمارهم حوالي 55 سنة، و على كل مستويات الطبقات المتوسطة في القطاع العام أو الخاص، سمح الانفتاح السريع للمراكز الجديدة باستيعاب الزيادة في المرشحين الأساسيين،من هنا كانت المنافسة معتدلة في ظل تقويم جيد للشهادات الجامعية.‏

بالنسبة للأجيال من الشباب الذين تتراواح أعمارهم مابين 30 و34 سنة ، و بينما يزداد مستوى الشهادة الجامعية،و ترتقي الأصول الاجتماعية ، و الحال هذه فإن المرشحين الأساسيين للدخول إلى الطبقا ت المتوسطة يتكاثرون، فإن نصف المراكزفي داخل الفئات المتوسطة التابعة للقطاع العام قد اختفت بكل بساطة ، في حين تشهد نظيراتها في القطاع الخاص نموا بطيئاجدا لاستيعاب التوسع في عدد المرشحين.‏

ففي ظل مجتمع فرنسي يعاني من الجمود،ومن تقلص النفقات في الاستثمار،في إطار من تقسيم جديد للعمل حيث الحدود بين طبقات العمر تظل منغلقة عن المنافسة،فقد جيل الشباب من حاملي الشهادات الجامعية أفاق إيجاد موقع له في فرنسا، على الأقل قبل الذهاب إلى التقاعد للعقد المقبل.‏

الظاهرة هي بكل وضوح لها علاقة بتوالد الأجيال، إذ تأخذ طابع أزمة حضارية.ففي القطاع العام، المثبت الجيد من الأكابر يترافق مع تزايد الإخفاقات الدائمة عند الشباب.و تنشر التجربة العائلية لإبطال التصنيف ، وحالات الزملاء و الجيران الذين تعرضوا لنفس الأمراض، الفكرة التالية ، أن التقدم الحاصل في السابق لن يتم نقله إلى الجيل المقبل.وقد عرفت صناعة الحديد و الصلب مثل هذا الانقلاب، في عام 1980 ،و لكن كان من المتوقع أن يحصل أقل في القطاع العام.‏

من دون أن ننكر أهمية المصاعب التي تواجهها الطبقات الشعبية و الفئات التي تواجه عملية التهميش الاجتماعي، بيد أن الدور في الوقت الحاضر أتى على الفئات المركزية في المجتمع الفرنسي لإختبار شكل عدم الاستقرار الحضاري."فالطبقات المتوسطة الجديدة الأجيرة"التي تقدم بها السن لديها شعوربأنها باعت النقد بالدين.‏

و تمثل هذه الظاهرة إحدى التفسيرات للهزات السياسية الفجائية التي تشهدها فرنسا منذ خمس سنوات: و نجد التعبير السياسي في سلوك هذه الطبقة الوسطى الفاقدة للأفاق المستقبلية والتي تعيش أوضاعا غير مستقرة، في الاستفتاء الأوروبي الذي جرى يوم 29 أيار/مايو 2005 الذي كشف بكل وضوح عن هذا القلق الجديد للطبقات المتوسطة، لا سيما تلك التي تعمل في القطاع العام، التي التحقت بالطبقات الشعبية في الوقت الحاضر حين تظاهرت معها ضد قانون العمل الأول الذي ألغاه شيراك مؤخرا تحت سياط الضغط الشعبي. ذلك أن مظاهرات الشباب الجامعي التي ساندتها النقابات و الطبقات المتوسطة قد أسمعت صوت نداء النجدة للأجيال الجديدة التي تعاني من الإسقاطات المدمرة للعولمة النيوليبرالية.‏

2006-10-30