ارشيف من : 2005-2008
روسيا والجوار عشية قمة الثماني ـ 22/5/2006
طه عبد الواحد(*)
مع اقتراب موعد انعقاد قمة الدول الصناعية الكبرى (الثماني) مطلع تموز/يوليو القادم تطفو على السطح تفاعلات سياسية مختلفة لا تنفصل عن التنافس الروسي الأمريكي المستمر والذي بلغت درجة حدته مستويات دفعت البعض في موسكو وواشنطن على حد سواء إلى الحديث عن (سلام بارد) بديل عن الحرب الباردة، بينما سارع آخرون إلى الاجتهاد والبحث عن تيارين في الإدارة الأمريكية، واحد متمثل بالصقور وعلى رأسهم ديك تشيني الذين ينادون بالحزم في التعامل مع موسكو، وكونداليزا رايس التي تنادي بفتح أبواب التعاون. وبين هذا وذاك تسعى القوى الملونة الموصوفة بالديموقراطية في الجوار الروسي إلى تقديم ما لديها من عروض عشية القمة المتوقعة، أما روسيا فيبدو أنها غير مكترثة وتزيد من احتكارها للإنتاج الغازي في الجمهوريات السوفييتية السابقة، وتقطع الطريق على خط الغاز بين آسيا الوسطى وأوروبا عبر قعر قزوين.
الحدة في لهجة الخطاب الأمريكي، وتحديداً في الكلمة التي ألقاها ديك تشيني في العاصمة فيلنوس في الرابع من الشهر الجاري لم تكن أكثر من استكمال لخطابات مشابهة كررها أكثر من مسؤول أمريكي خلال الأشهر الماضية، ووجهة النظر القائلة بوجود تيارين في الإدارة الأمريكية بعيدة عن الواقعية لأن كونداليزا رايس التي يرى البعض أنها تمثل التيار الأمريكي الأكثر ليونة نحو روسيا، كانت سباقة إلى توجيه اتهامات مبطنة وصريحة إلى القيادة الروسية لاستخدامها الغاز وسيلة ضغط، حسب التعبير الأمريكي، في علاقتها مع أوكرانيا وجورجيا وملدافيا. ولعل الأقرب إلى الواقعية القول إن مؤسسات الإدارة الأمريكية الحاكمة توزعت الأدوار بين متشدد وأقل تشدداً، إن لم ينجح هذا فقد ينجح ذاك في التأثير على المواقف الروسية، والأمر لا يزيد عن ذلك.
بأي حال فإن التصريحات الأمريكية لم تؤثر على خطط القيادة الروسية،ولا على قراراتها، فالأزمة الغازية مع أوكرانيا وجورجيا ما زالت خارج نفوذ التحكم الأمريكي، وما زالت روسيا تملك زمام المبادرة. الأمر نفسه بالنسبة للسياسة الطاقية الروسية عموماً، فروسيا التي تسعى إلى شغل مكانة القوة العظمى طاقياً ما زالت مستمرة بخططها، هذا ما يؤكده الاتفاق الروسي-الكازخي الذي أبرمه الرئيسين بوتين نزربايف في مدينة سوتشي على البحر الأسود في التاسع عشر من الشهر الجاري. إذ وافقت روسيا على الشرط الكازاخي برفع أسعار الغاز المستورد إلى روسيا من ما يقارب 50دولار للألف متر مكعب إلى 140دولار وسطياً. لكن الأهم في هذا الشأن أن روسيا قد فرضت هيمنتها شبه المطلقة على مصادر الطاقة من آسيا الوسطى، وقطعت الطريق على المشروع الأوروبي بمد خط غاز من كازخستان إلى أوروبا بتجاوز روسيا عبر قعر قزوين.
وكان وزير الطاقة الكازاخي قد أعلن موافقته المبدئية على تشييد هذا الخط أثناء لقائه مطلع الشهر الجاري مع أندرس بيبغاليس المبعوث الأوروبي لشؤون الطاقة. لكن الوضع تغير بعد توجيه الدعوة إلى الرئيس الكازاخي نور سلطان نزربايف ليلتقي بنظيره الروسي في سوتشي. هناك على شاطئ البحر الأسود وقعت روسيا مع كازخستان اتفاقية تزيد من تحكم الأولى، بل وإحكام السيطرة على تصدير الغاز إلى أوروبا وحتى إلى الصين.
إذا كانت روسيا غير مكترثة لما قد يقولونه في الغرب، وتعمل من أجل بناء كيانها المستقل عن الضغوطات والرغبات الخارجية، فإن جاراتها مازالت تدور في فلك الرغبات الأمريكية والتنافس بينها من أجل تقديم الخدمات لواشنطن. ففي الثالث والعشرون من الشهر الجاري ستشهد العاصمة كييف قمة منظمة (غوام) التي تضم حالياً كل من (جورجيا، أوكرانيا، ملدافيا،وأذربيجان) أي الدول التي تقودها قوى منادية بالاندماج مع الغرب (الناتو والاتحاد الأوروبي) أو كما يصفها البعض (معسكر العداء لروسيا)، باستثناء أذربيجان التي تحاول التزام نهج متوازن بين موسكو وواشنطن.
الجدير بالذكر أن قادة الجمهوريات الثلاث الأولى كانوا متواجدين في قمة فيلنوس واستمعوا إلى كلمة تشيني، فهم من دعاة تأسيس منظمة (رابطة دول الخيار الديموقراطي) التي لا تختلف بنهجها وطرحها عن منظمة غوام. والحديث دوماً عن ضرورة نشر القيم الديموقراطية في الجمهوريات السوفييتية السابقة مع التأكيد على ضرورة الحد من تزايد النفوذ الروسي. في إشارة لسياسة هؤلاء القادة (الملونين) قال ديمتري سيمس مدير مركز نيكسون والقائم على إصدار صحيفة (National Interest) الأمريكية: «...حتى لو نظرنا إلى الجوار الروسي فمن السهل أن نسمي أولئك القادة الذين يرغبون بأن يصبحوا أصدقاء لأمريكا، وليس لأنهم ديموقراطيين في واقع الأمر أو لأنهم يمارسون سياسات داخلية ناجحة، بل على حساب عوائهم المرتفع على القمر، أي نحو موسكو».
وجهة النظر هذه جاءت في لقاء خاص مع سيمس أجرته صحيفة نيزافيسمايا غازيتا الروسية قبل قمة غوام بعدة أيام. وتأتي هذه القمة بعد مشاورات أوكرانية –جورجية للبحث في موضوعية الانسحاب الثنائي من رابطة الدول المستقلة، في محاولة للضغط على روسيا لعلها تتراجع عن بعض قراراتها بخصوص تعامل الأسواق الروسية مع المنتجات من هاتين الجمهوريتين، وكذلك الأمر بالنسبة للسياسة الغازية الروسية اتجاهيهما.
من جانب آخر فإن قمة غوام القادمة تهدف إلى الإعلان عن مركز قوة بالقرب من روسيا تريد أوكرانيا أن تتحول إلى قوة إقليمية من خلاله، فالمنظمة المذكورة تجمع دول لا ترغب بالحفاظ على علاقات ودية مع روسيا نظراً لما تقوم به من ممارسات تهدد المصالح الروسية، فهي جميعها تعمل من أجل الانضمام إلى حلف الناتو مع ما ستتركه هذه الخطوة من تأثير مباشر على روسيا، وتتسابق في الوقت نفسه لتنفيذ المشاريع الأمريكية بتوسيع دائرة نفوذ واشنطن في الجمهوريات السوفييتية السابقة تحت شعار نشر الديموقراطية. أي أن جمهوريات منظمة غوام تأمل بتغيير أوضاعها على حساب تبنيها للأفكار الأمريكية وتسابقها على لعب الأدوار المطلوبة أمريكياً، بما في ذلك سعي كييف إلى لعب دور القاعدة الرئيسية في خدمة المصالح الأمريكية.
المعطيات الحالية تؤكد أن روسيا لن تتأثر بانسحاب الجمهوريتين (جورجيا وأوكرانيا) من رابطة الدول المستقلة، والعكس هو الأصح، فها هي بعض الشركات المنتجة للكحول تطالب الرئيس يوشينكو بعدم الإقدام على خطوة تدميرية للاقتصاد الأوكراني، وفي غضون ذلك لا تخفي بعض الأوساط السياسية في كييف قلقها من تفاقم الأزمة الغازية، وما ستؤدي إليه من شلل للاقتصاد الأوكراني في حال الانسحاب من الرابطة. فأينما ذهبت أوكرانيا أو غيرها من مستهلكي الطاقة سيجدون الشركات الروسية بانتظارهم لأن روسيا أصبحت تسيطر على الجزء الأكبر من مصادر الغاز في آسيا الوسطى. وهي ذاهبة إلى رئاسة القمة الحالية للدول الثماني متسلحة بورقة قوية، باعتبارها أصبحت قوة طاقية عظمى دولياً يتوجب على الجميع احترام مصالحها. ولا يتوقع أن تقدم تنازلت لواشنطن في هذه القمة بل قد تكون هناك مساومات مثمرة للجانبين، مع التوقعات بتراجع حدة لهجة الخطاب الأمريكي نحو روسيا.
(*)كاتب صحافي متخصص بالشؤون الروسية
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018