ارشيف من : 2005-2008
إخفاق أمريكي جديد في الصومال 9/6/2006
كتب توفيق المديني
بعد أربعة أشهر من المعارك العنيفة بين قوات " المحاكم الشرعية " و الجبهة المسلحة الجديدة المتشكلة من أمراء الحرب، التي أطلقت على نفسها اسم "التحالف لمكافحة الإرهاب و استعادة السلام"، والتي خلفت ما يقارب 400 قتيلا و 2000جريحا، ها هي مجموعات المحاكم الإسلامية المسلحة تعلن سيطرتها على العاصمة مقديشيو يوم الإثنين الماضي، وتستعد للسيطرة على مدينة جوهر حيث تتواجه على مشارفها قوات تابعة للمحاكم الإسلامية وأخرى تابعة لملشيات أمراء الحرب.
"التحالف لمكافحة الإرهاب واستعادة السلام" المدعوم من واشنطن، خسر معركة مقديشيو، على الرغم من ملايين الدولارات التي دفعتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لأمراء الحرب. بيد أن حسابات الولايات المتحدة الأمريكية التي تقوم على "تنظيف مقديشيو من الإسلاميين لبضعة ملايين من الدولارات" حسب شهادة خبير من المنطقة، منيت بإخفاق حقيقي. وشهد مطلع الأسبوع الحالي إعلان رئيس المحاكم الإسلامية الشيخ شريف شيخ أحمد طرد زعماء الفصائل المسلحة وميليشياتهم من مقديشيو وسيطرة ميليشياته على كل أنحاء العاصمة، بشطريها الشمالي والجنوبي، وهوالأمر الذي لم يتح لأي من الفصائل المسلحة منفردة أو مجتمعة طيلة سنوات الحرب الأهلية الـ15 الماضية.وصار الشيخ شريف، من الإثنين الماضي، سيد إقليم بنادر(تقع ضمنه مقديشيو)الأوحد.
وبالمقابل، فإن ميلشيات المحاكم الإسلامية تلقت دعما ماليا مهما من رجال الأعمال الصوماليين ومن منظمات من البلدان العربية، وكذلك الأسلحة. وقد استفادت أيضا من التجربة العسكرية للجهاديين الأجانب والضباط الكبار القدامى الذين كانوا يعملون في جيش زياد بري، الرئيس الذي تمت إزاحته من السلطة في عام 1991. ومن المعلوم تاريخيا أن ميليشيات المحاكم الإسلامية لم تظهر سابقا في أي من محاولات المصالحة الوطنية الـ14 و التي نجح آخرها في تعيين برلمان وتشكيل حكومة وانتخاب رئيس جديد للبلاد، لكن أي من هذه المؤسسات لم تجرؤ على دخول العاصمة مقديشيو بسبب سيطرة أمراء الحرب، كل على حي من أحيائها.وظلت الحكومة على مسافة 230 كيلومترا من جنوب العاصمة، في مدينة بيداوة، حيث مقرها المؤقت.
وكانت المعارضة التي أسقطت نظام زياد بري في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي متشكلة من "المؤتمرالصومالي الموحد" بزعامة الجنرال الراحل فرح عيديد، و"الحركة الوطنية الصومالية" بزعامة عبد الرحمن أحمد علي "تور"، و"حركة الوطنيين الصوماليين" بزعامة الكولونيل أحمد عمر جيس من شمال البلاد. ومع سقوط النظام، التحق أفراد الجيش الوطني النظامي كل بقبيلته مع سلاحه.
ولم تنجح فصائل المعارضة في تحقيق مصالحة وطنية حقيقية، إذ شهدت البلاد بعد زياد بري حربا أهلية على خلفية قبلية، للإستحواذ على السلطة، والنفوذ والأراضي والموارد. وطالت الحرب الأهلية .. وغدت نفقاتها مرتفعة جدا وكثيرة. و يبدو أن التجار أيقنوا، أنه لا يمكن لقبيلة بمفردها السيطرة على كامل البلاد.ولاحظوا ثانيا، أن كل اتفاقات المصالحة التي وقعها زعماء الميليشيات التي يمولونها تؤول إلى فشل ولا تنفذ. كما شعروا ثالثا، أنهم بدأوا يخسرون في هذه"التجارة" مع أمراء الحرب الذين بدأوا يؤسسون لأنفسهم تجارة خاصة بهم.
في عام 1994، تبلورت لدى التجار فكرة إضعاف أمراء الحرب أوإقصائهم وإيجاد بديل مقبول لدى كل القبائل والشارع الصومالي عموما، فوجدوا البديل في " التجمعات الإسلامية". و معروف أن كل الصوماليين يدينون بالإسلام و ينتمون إلى المذهب الشافعي. وهم عموما متدينون على الرغم من اعتماد زياد بري الماركسية نظاما لحكمه (1969-1991).
وهكذا، أسهم التجار في تمويل الجماعات الإسلامية التي شكلت بدورها ما بات يعرف ب"المحاكم الإسلامية" والتي ظهرت أولا في مقديشيو، حيث أسس الشيخ علي محمود الملقب بـ"شيخ علي طيري" أولى هذه المحاكم، الأولى من نوعها منذ استقلال الصومال العام 1960. وصار للمحاكم الإسلامية 3000 عنصرا من الميلشيات المسلحة يطلق عليها اسم "الخيالة"، ثم استقطبت لاحقا أكثر من 11000 رجلا للقيام "بالجهاد" -كما أعلن بذلك رئيس اتحاد المحاكم الإسلامية الشيخ شريف شيخ أحمد . في البداية لم تكن لهذه المحاكم أية سلطة استثنائية أو شعبية، لكن الوضع تغير تدريجيا وتحولت المحاكم خلال 10 سنوات من "أداة" لفرض النظام والقانون إلى "سلطة بديلة" للسلطة المركزية التي ظلت مشتتة في "المكان" و"الأولويات" بسبب التنازع بين زعماء القبائل.
لكن المحاكم الإسلامية فاجأت الكثيرين بنجاحها السريع وتمكنها من كسب التأييد الشعبي حيث أصبح لها نفوذ متنام خاصة بعد أن تفرغ زعماء الحرب لمفاوضات التسويات ومؤتمرات المصالحة التي عقدت في الخارج. وشيئا فشيئا شعر زعماء الحرب بأن نفوذهم بدأ يتضرر فتخلصوا من المحاكم الإسلامية آنذاك وبالذات عام 1996 وأغلقوها بالكامل في شمال العاصمة الذي كانت توجد فيه أقوى هذه المحاكم.
واستمر الوضع من دون محاكم إسلامية وانحسر نفوذ الإسلاميين السياسيين حتى عام 1999 عندما عادت المحاكم الإسلامية إلى الظهور مجددا في أكثر من منطقة داخل العاصمة وخارجها. إلا أن هذه المحاكم خفت صوتها بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر عندما اتهمت الحكومة الانتقالية آنذاك (برئاسة عبد القاسم صلاد) بأنها تدعم الإسلاميين وبأنها أعطتهم مناصب سياسية ونفوذا أكبر. ولكي تخفف الحكومة من الضغوط التي مورست عليها، نفذت برنامجا لدمج المحاكم الإسلامية في الأجهزة القضائية للحكومة وأعادت تعيين قضاة المحاكم الإسلامية في المحاكم العادية. لكن هذه الفكرة لم تدم طويلا إذ سرعان ما انهارت الحكومة الانتقالية بسبب عرقلة زعماء الحرب لها. ومن جديد أعاد الإسلاميون تنظيم أنفسهم وتم إنشاء محاكم إسلامية جديدة وجاء الدعم هذه المرة من رجال أعمال صوماليين كانوا يرون المحاكم الإسلامية قوة قادرة على حماية الأمن وسلامة العملية التجارية وبعض رجال الأعمال هؤلاء كانوا إسلاميين قدامى أو من لهم ميول ظاهرة نحو المشروع الإسلامي في الصومال.
في فلك المحاكم الإسلامية، توجد عدة اتجاهات، فالأكثر تشددا يتمركزون في مراكز التدريب غربي البلاد. بينما ذهب العديد من المقاتلين يتدربون في أفغانستان، والعراق، وظل بعض الصوماليين يتلقون تدريبا على أراضيهم، لا سيما في المنطقة الحدودية مع كينيا، تحت قيادة حسن التركي، احد قادة المجموعات الإسلامية المسلحة، وأحد قيادات المحاكم الإسلامية الذي استولى على العاصمة مقديشيو.
ويتساءل المحللون الغربيون، هل سيقتصر اتحاد المحاكم الإسلامية على السيطرة على العاصمة فقط، أم إنه سيغامر للإستيلاء على مدن أخر؟ حسب خبير صومالي، التوسع يندرج في مشروع العقول المفكرة التي تدير المحاكم الإسلامية من خلف الستار .إذ يحذر:" الصومال ليس إلا مرحلة.الذين استولوا على السلطة في مقديشيو لهم مشروع أوسع بكثير. المحطة المقبلة المستهدفة من الآن و حتى سنتين ستكون اليمن، ثم العربية السعودية".
وخلف هذا الصراع الأهلي في الصومال، يبرز الصراع الإقليمي بين أثيوبيا و إريتريا، اللذين يساندان فرقاء الصراع الأهلي في الصومال منذ توقف الحرب بينهما في عام 2000. أثيوبيا تقدم السلاح لأمراء الحرب، بينما تساند إريتريا الإسلاميين.
من جانبها استقبلت الولايات المتحدة الأمريكية نبأ سقوط مقديشيو في أيدي المحاكم الإسلامية بقلق شديد. وتتهم الولايات المتحدة "المحاكم الإسلامية" أيضا أنها تؤوي ثلاثة على الأقل من عناصر تنظيم "القاعدة" يشتبه في أنهم كانوا وراء تفجيرات سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام عام 1998 وكذلك التفجيرات التي استهدفت فندقا وطائرة مدنية إسرائيلية في ممباسا عام 2002، والمحاكم الإسلامية بدورها تنفي هذه التهمة.
سقوط مقديشيو في أيدي المحاكم الإسلامية يمثل صفعة لإدارة الرئيس بوش. فهذه الأخيرة، أقامت رأس جسر في جيبوتي لخوض الحرب على الإرهاب ، بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001. ويعتبر القرن الإفريقي أحد الميادين الرئيسة لمسرح العمليات بالنسبة للقيادة المركزية، التي تدير من ولاية فلوريدا العمليات ضد القرصنة في البحر الأحمر أو تدريب حرس الحدود المحليين مع ائتلاف متكون من ستين بلدا.
بيد أن سيطرة المحاكم الإسلامية على مقديشيو لا يعني نهاية زعماء الحرب الصوماليين الذين كانوا يتنازعون حول السيطرة السياسية والعسكرية على الصومال، كما أنه لا يمكن القول إنها تعني سيطرة الإسلاميين كلية على المسرح السياسي الصومالي، لكنها قد تكون بداية لصعود الإسلاميين وتراجع قوة زعماء الحرب الصوماليين.
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018