ارشيف من : 2005-2008

شبه جزيرة القرم تنتصر على القوات الأمريكية 13/6/2006

شبه جزيرة القرم تنتصر على القوات الأمريكية 13/6/2006

طه عبد الواحد(*)‏‏

ما زالت أوكرانيا على مفترق طرق يهدد بأزمة داخلية حادة على صلة مباشرة بارتفاع حدة التوتر بين موسكو وواشنطن، الأغلب أنها لن تنتهي قريباً، لكن نهايتها ستضع النقاط على حروف مستقبل أوكرانيا. فالصراع الدائر في هذه الجمهورية منذ ما يُسمى بالثورة البرتقالية هو صراع بين تيار يرى أن الموقع الأفضل لأوكرانيا يكون بالحفاظ على العلاقات الطيبة مع روسيا، وتيار آخر تبنى الاستراتيجية الأمريكية للمنطقة وسارعت القوى الممثلة فيه إلى التسابق للإعلان عن الأكثر قدرة على تقديم الخدمات للولايات المتحدة، لاسيما وأن هؤلاء يدركون أهمية أوكرانيا في الاستراتيجية الأمريكية الموجهة نحو منع نهضة روسيا وتحولها إلى قوة صاحبة نفوذ في الفضاء السوفييتي السابق.‏‏

وبينما هم البرتقاليون دعاة الاندماج مع الغرب في حيرة من أمرهم بشأن تقاسم الحقائب الوزارية وتعيين رئيس حكومة عنهم، أقدمت السلطات الرسمية الأوكرانية على خرق فاضح للدستور حين سمحت لسفينة حربية أمريكية بالدخول إلى ميناء (فيدوسيا) الواقع في شبه جزيرة القرم على البحر الأسود. والجدير بالذكر أن سفينة أمريكية محملة بالعتاد والجنود كانت قد دخلت الميناء المذكور نهاية الشهر الماضي بذريعة تهيئة موقع لمناورات (سي بريز) التي تجري في أوكرانيا سنوياً منذ عام 1997، في إطار اتفاقية (التعاون بين أوكرانيا والناتو)، لكن سكان شبه جزيرة القرم، حيث الأغلبية من مؤيدي حزب الأقاليم الموالي لروسيا، رأوا في هذه الخطوة ما يشبه الدخول عنوة إلى أراضيهم وخرجوا ليعبروا عن غضبهم، فطوقوا مكان إقامة الجنود الأمريكيين ومنعوا الشاحنات المحلة بالعتاد والأسلحة من الدخول إلى الميناء. حصار المعتصمين لموقع تواجد الجنود الأمريكيين استمر أكثر من خمسة عشر يوماً واستمر حتى بعد بدء سحب واشنطن لعناصرها من هناك، بانتظار أن يغادر آخر جندي أمريكي الأراضي الأوكرانية.‏‏

وكانت قضية دخول سفينة أمريكية إلى ميناء فيدوسيا قد فتحت أكثر من ملف ساخن في أوكرانيا، كان أولها عودة أزمة عجز القوى البرلمانية عن تشكيل حكومة أغلبية بعد مضي أكثر من ثلاثة أشهر على إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية في أوكرانيا، والمعضلة الرئيسية في هذا الشأن ما زالت تتلخص بعجز تحالف القوى البرتقالية عن الاتفاق على شخص يناسب قوى هذا التحالف (حزب بيوت بزعامة يوليات تيموشينكو، حزب ناشا أوكرانيا بزعامة الرئيس يوشينكو، والحزب الاشتراكي)، والتنافس يدور هنا بشكل رئيسي بين أتباع الرئيس يوشينكو وأتباع يوليا تيموشينكو رئيسة الحكومة الأوكرانية السابقة، فالسيدة تيموشينكو ما زالت مصرة على رئاسة الحكومة في ظل تزايد رفض مجموعة يوشينكو منحها هذا الموقع، ما يهدد أوكرانيا بأزمة سياسية قد تعني إما أزمة سياسية تفرض على الرئيس الإعلان عن إعادة الانتخابات البرلمانية، أو قيام تحالف لصالح القوى الموالية لروسية والتي حصلت على أغلبية غير كافية للتفرد بتشكيل حكومة، يمكنها من شغل الحقائب الرئيسية في هذه الحكومة التي ستحدد مصير أوكرانيا.‏‏

أزمة التواجد الأمريكي في شبه جزيرة القرم لم تكن بعيدة عن التنافس على رئاسة الحكومة، فالأغلبية من المحليين يؤكدون أن حزب الأقاليم قد استغل هذا الوضع ليعلن للرئيس يوشينكو عن قدرته على تحريك الشارع جنوب البلاد، لا سيما في منطقة مثل شبه جزيرة القرم تشكل أهمية استراتيجية لكل من واشنطن وموسكو على حد سواء. فبالنسبة لروسيا هي الموقع الأفضل لأسطولها الأضخم في البحر الأسود، أما الولايات المتحدة فترى في إغلاق شبه الجزيرة أمام القوات الروسية خطوة استراتيجية تبعد روسيا عن اقترابها المتزايد من ما يسمى في الاستراتيجيات العسكرية (البحار الدافئة) والمقصود هنا البحر الأبيض المتوسط وأهميته. والأغلب أن الرئيس يوشينكو أراد من سماحه للقوات الأمريكية بدخول بلاده التأكيد على التزامه بنهج التوجه نحو الغرب، لعله يحصل على دعم أكبر من واشنطن التي أعلنت بصيغة غير مباشرة دعمها ليوليا تيموشينكو حين صرح أكثر من مسؤول أمريكي تأييده لموقف تيموشينكو من الاتفاقية الغازية المبرمة بين موسكو وكييف مطلع العام الجاري والتي أنهت فصل من فصول الأزمة الطاقية بين البلدين.‏‏

إن استمرار الخلاف بين رموز التيار البرتقالي (تيموشينكو ويوشينكو) وحيرة واشنطن في المرشح الذي يجب دعمه، شكل مناخاً ملائماً للتيار الموالي لروسيا المتمثل بحزب الأقاليم والحزب الشيوعي الأوكراني. ففي خطوات سبقت عرض القوة الفعلية لهذه القوى من خلال الاعتصام ضد التواجد الأمريكي في شبه جزيرة القرم، كانت المجالس المحلية لأكثر من إقليم أوكراني قد أعلنت تبنيها اللغة الروسية كلغة محلية رئيسية، بينما أعلن مجلس (برلمان) إقليم خاركوف في أوكرانيا حجب الثقة عن مرشح الرئيس لتزعم الإقليم المذكور. ومن الطبيعي أن ما يقوم به حزب الأقاليم في هذا الإطار يشكل تهديداً مباشراً لمستقبل أي تحالف برتقالي قد يتسلم زمام السلطة في أوكرانيا، لأن ما يقوم به هذا الحزب من خطوات تؤكد أن أكثر من نصف الشعب الأوكراني يعارض سياسة التوجه نحو الغرب، وسيقف في مواجهة أي خطوات تقوم بها حكومة برتقالية قد تصل إلى السلطة. من جانب آخر فإن استطلاعاً للرأي العام الأوكراني أجرته مؤسسة (المبادرة الديموقراطية) قد أظهر رفض الأغلبية من الأوكرانيين لسياسة التوجه نحو الغرب، إذ تفيد نتائج استطلاع الرأي أن 64.4% من الأوكرانيين ضد الانضمام إلى الناتو، وفي المناطق التي شكلت شعبية رئيسية للبرتقاليين أثناء الانتخابات البرلمانية شهر آذار من هذا العام أعلن 38% من الناخبين رفضه انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو. من هنا فإن نهج التوجه نحو الغرب يهدد التحالف البرتقالي بالهزيمة حتى في تلك المناطق (غرب أوكرانيا) التي تعتبر مناطق نفوذ جماهيري واسع لصالحه.‏‏

الوضع الأوكراني الذي ما زال مفتوحاً على أكثر من احتمال لا يدع مجالاً لوضع نهاية لهذه المقالة، لكن المعطيات الحالية تشير إلى احتمال كبير بأن تشهد أوكرانيا في الفترة القريبة القادمة أزمة سياسية تهز القوى البرتقالية، ولعلها تعيد أوكرانيا إلى دربها التاريخي المتلازم مع الدرب الروسي. والنصر الذي حققه سكان شبه جزيرة القرم بطرد القوات الأمريكية، قد يكون مؤشر واضح يدل على أوكرانيا ما بعد البرتقالية!! وها هو الحزب الاشتراكي قد أعلن عن انسحابه من المحادثات مع البرتقاليين لتشكيل أغلبية ما يرجح تشكيل حزب الأقاليم لهذه الأغلبية مع ما سيترتب على ذلك من تعديلات في السياسة الخارجية لأوكرانيا.‏‏

(*)كاتب صحافي متخصص بالشؤون الروسية‏‏

2006-10-30