ارشيف من : 2005-2008

حول السجون السرية الأميركية للتعذيب

حول السجون السرية الأميركية للتعذيب

توفيق المديني‏

منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، اعتبر جورج بوش أن الحرب على الإرهاب تبرر التخفيف من بعض الواجبات الأخلاقية للقانون الدولي.‏

وبعد بضعة أيام من بدء الحرب الأمريكية على أفغانستان ، منح الرئيس الأمريكي جورج بوش وكالة المخابرات المركزية الأمريكية السي.آي .إيه سلطات واسعة لنقل المشتبه بهم في أعمال إرهابية إلى الخارج، وعلى أساس هذه القاعدة ظهرت " السجون السرية" للسي .آي .إ يه.‏

وكانت صحيفة "الواشنطن بوست" أكدت أن وكالةالاستخبارات أرسلت أكثر من 100 مشتبه فيه تم اعتقالهم بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر2001 إلى شبكة سرية من السجون حملت اسم "المواقع السوداء" وتقوم بتمويلها الوكالة الأميركية في أوروبا الشرقية ودول أخرى خصوصا تايلندا وأفغانستان.‏

وحسب ما كشفته صحيفة "الواشنطن بوست"، تعتقل السي .آ ي .إ يه. القيادات المهمة لتنظيم "القاعدة" ـ ثلاثين شخصا في المجموع العام ـ في سجون سرية في الخارج.‏

وتقع هذه السجون السرية للجهاديين في بلدان اوروبا الشرقية في قواعد سوفياتية سابقة.هذه المعلومات التي كشفتها "واشنطن بوست" لم تنفيها السلطات الأمريكية .واعتبرالسيد ستيفان هادلي، المستشار في الأمن القومي الأمريكي بصدد هذه السجون :‏

"إن واقع كونها سرية ، بمقدار ماهي موجودة، لا يعني أن التعذيب يمكن أن يسمح به".‏

وقد نفت كل من بولندا ورومانيا الحليفين الوفيين للولايات المتحدة الأمريكية في الحرب ضد ما يسمى الإرهاب، بشكل قاطع يوم الخميس 3تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، الشكوك التي عبرت عنها اليوم عينه منظمة هيومان رايتس ووتش الأمريكية المدافعة عن حقوق الإنسان، والتي مفادها أن هذين البلدين يأويان على أراضيهما سجونا سرية تابعة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية السي آي.إيه. من أجل إستجواب أشخاص متهمين بالإنتماء إلى تنظيم "القاعدة"، وإخضاعهم للتعذيب.‏

في فرسوفيا كانت ردة فعل الأغلبية السابقة الإشتراكية الديمقراطية متماثلة مع ردة فعل الحكومة الحالية لليمين المحافظ: "نحن لا نعتقل إرهابيين و لا نحقق معهم" حسب تأكيد السيد جيرزي سماجدنسكي وزير الدفاع البولندي(2001-2005)في مرحلة ، حيث حطت طائرة تابعة للسي.آي. إيه. قادمة من أفغانستان في مطار سزيماني (شرق بولندا ) بشكل سري ، ثم في القاعدة العسكرية الرومانية ميهايل ـ كوغالنيسو، القريبة من ميناء كونستانتا، على البحر الأسود، في أيلول/سبتمبر 2003.‏

ولا يعتقد مسؤول الأجهزة السرية البولندية ، زبيغينوواسيرمان، بوجود سجون سرية في بولندا.‏

يقول:" فمثل هذا الإحتمال قد يحصل في بلدان آسيا الوسطى أو القوقاز لكنه غيروارد في بولندا، حيث أن القوات الأمريكية غير منتشرة. إنه من غير المعقول أن تسمح الأجهزة الأمنية البولندية بمثل هذا العمل الذي سيضع الأمن القومي في خطر". وجاء أيضا النفي قطعيا من رومانيا، حيث قال رئيس وزراء رومانيا، كالين تاريسيانو"لا توجد قواعد "للسي .آي.إيه".‏

هذان البلدان المتهمان ، والعضوان في الحلف الأطلسي، كانا في أوروبا من أشد المتحمسين للغزو الأمريكي للعراق مع بداية 2003، ووقعا، بفاصل زمني ببضعة أيام، على رسالتين تطالبان بالتدخل المسلح ضد نظام صدام حسين. وأرسلا قوات إلى العراق، على الضد من رأي شعبيهما.‏

فالمطار الروماني "ميخيلكوغلنيسو" المذكورمن قبل منظمة هيومان راتس ووتش، قد استخدم بدءا من آذار/مارس 2003 كقاعدة خلفية مهمة وعنصرا للجسر الجوي الأمريكي أثناء الحرب على العراق.‏

وفضلا عن ذلك، هذا الموقع بإمكانه أن يستقبل واحدة أو عدة قواعد أمريكية في نطاق إعادة نشر القوات الأمريكية في أوروبا الشرقية. فالمفاوضات هي "منتهية عمليا" باستثناء بعض " التفاصيل الإدارية"، وهي الآن قيد النقاش أيضا حسب تأكيد الرئيس الروماني ، تريآن باسيسكو.‏

وكان وزير الخارجية الروماني رازفان أونغورييانو، أعلن الأسبوع الماضي، أن وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس ستزور رومانيا قريبا لتوقيع إتفاق في هذاالشأن . أخيرا ، إن رومانيا هي من بين البلدان القلائل الأعضاء في التحالف الدولي التي لم تحدد جدولا زمنيا لإنسحاب قواتها من العراق.‏

أما بولندا، فهي تقر اليوم بسحب قواتها من العراق مع بدايةالعام المقبل، حيث كانت تقود واحدة من المناطق الأمنية الثلاث. و لكنها تظل وفية للولايات المتحدة الأمريكية، التي تعتبر في فرسوفيا الضامن الجيد لأمنها الخارجي منذ نهاية الهيمنة السوفياتية.ويؤكد وزير الداخلية البولندي السابق ريزارد خاليس أن بلاده، العضو في الإتحاد الأوروبي منذ 2004، لن تسمح بإقامة مراكز سرية للإعتقال على أراضيها ،حيث يتم ممارسة التعذيب فيها، في حين أن بولندا " التزمت باحترام حقوق الإنسان " منذ أن طوت صفحة الشيوعية منذ ستة عشر عاما.‏

وكانت جمهورية تشيكيا الوحيدة التي أقرت بأنها رفضت طلبا أميركيا لإنشاء سجن ينقل إليه معتقلون من قاعدة غوانتانامو. ومع ذلك ، نفت كل من هنغاريا،و سلوفاكيا ، و تشيكيا، وبلغاريا ، أن تكون سمحت بإقامة سجون سرية للسي.آي.إيه .على أراضيها، في حين أن تقريرصحيفة الواشنطن بوست الأمريكية يؤكد أن السي.آي.إيه تستوجب أحد المعتقلين المهمين من تنظيم القاعدة في إحدى القواعد السوفياتية الموجودة في أوروبا الشرقية.‏

لقد أثارت قضية " السجون السرية" نقاشا حذرا داخل المفوضية الأوروبية، التي لم تقم دعوى على أساليب التعذيب التي تمارس ضد سجناء غوانتنامو، و هي على ما يبدو لا تريد إدانة مبدأ "المواقع السوداء"، أين يتم إعتقال الإرهابيين المشتبه بهم. فهي تتناقش بانتظام مع وزير العدل الأمريكي، ألبرتو غونزاليس، من دون أن تنتقد رأيه، أن الإرهاب حالة إستثنائية يهمل قواعد القانون الدولي الإنسانية.‏

وكان الناطق الرسمي باسم فرانكو فراتيني، المفوض الأوروبي المكلف بالعدل والشؤون الداخلية ، أشارأن المفوضية الأوروبية في بروكسيل "ستقوم بأبحاث على مستوى تقني". و تستبعد المفوضية في الوقت الحاضر "أي إجراء سياسي".‏

وتزايدت الشكوك لدى أوساط مختلفة في الولايات المتحدة وأوروبا إزاء لجوء الاستخبارات الأميركية إلى ترحيل المتهمين في قضايا "الإرهاب" إلى سجون سرية خارج الأراضي الأميركية لاستجوابهم وإخضاعهم للتعذيب.‏

وآخر البلدان التي طالتها تلك الاتهامات والشكوك النرويج والسويد والمغرب وإسبانيا, وكانت سبقتها المجر وإيطاليا ورومانيا وبولندا وألمانيا.‏

وفي هذا الصدد أعلنت الحكومة النرويجية يوم الأربعاء 17 نوفمبر الجاري عقد اجتماع مع السفير الأميركي لتحديد ظروف هبوط طائرة في أوسلو في 20 يوليو/تموز الماضي، بعدما ذكرت وسائل إعلام محلية أن الاستخبارات الأميركية استخدمتها لنقل سجناء إسلاميين. وفي السويد, تحدثت وكالة الأنباء المحلية "تي تي" عن هبوط طائرتين على الأقل للاستخبارات الأميركية تقلان سجناء عامي 2005 و2002, إحداهما توجهت مرارا إلى قاعدة غوانتانامو الأميركية في كوبا.‏

وفي المغرب, أكدت مجلة "لوجورنال" الأسبوعية نقلا عن عنصر سابق في الاستخبارات لمغربية أن المغرب "ساهم مباشرة في برنامج سري للتعذيب وضعته الاستخبارات الأميركية, أن طائرات استأجرتها "سي آي إي" قامت على الأقل بعشر رحلات داخل البلاد من كانون الأول/ديسمبر 2002 إلى شباط/ فبراير 2005.وفي إسبانيا, أوردت صحيفة "إيل بايس" نقلا عن تقرير للحرس المدني أن أربع طائرات استخدمتها الاستخبارات الأميركية لنقل معتقلين إلى سجون سرية هبطت على الأقل عشر مرات في بالما دي مايوركا عامي 2004 و2005.‏

وقد وجهت أسئلة عديدة حول هذه القضية إلى الحكومة الإسبانية برئاسة خوسيه لويس رودريغيز ثاباتيرو, وطالبت الكتلة الوطنية اليسارية بمثول وزيري الدفاع خوسيه بونو والداخلية خوسيه أنطونيو ألونسو أمام البرلمان لتبديد "الشكوك حول اعتقالات غير مشروعة وعمليات خطف" ترتبط بهذه المسألة .‏

وفي واشنطن نفى متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية تلقي أسئلة رسمية من الحكومة الإسبانية حول هذا الموضوع. ومن جانبه أصر مجلس الشيوخ الأميركي على أن يقدم رئيس الاستخبارات معلومات دقيقة عن السجون السرية التي أنشأتها "سي آي أي" وأماكن وجودها.‏

وفي ألمانيا, فتح تحقيق حول قيام عناصر الاستخبارات الأميركية في شباط/فبراير 2003 بخطف المدعو أبو عمر في إيطاليا, وهو إمام سابق نقل إلى قاعدة رامشتاين الأميركية جنوب غرب ألمانيا قبل أن يتم اقتياده إلى مصر. وفي إيطاليا, طلبت النيابة في ميلانو تسليم 22 من عناصر الاستخبارات الأميركية يشتبه في مشاركتهم في خطف أبو عمر الذي كان يخضع لتحقيق إيطالي في إطار مكافحة ما يسمى الإرهاب.‏

من جهة أخرى دعا المقرر الخاص للأمم المتحدة حول التعذيب مانفريد نوفاك الاتحاد الأوروبي إلى إجراء تحقيقات عالية المستوى حول مجمل هذه الاتهامات. وأعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنها تطالب الولايات المتحدة منذ عامين بمنحها إذنا لزيارة معتقلين سريين في الخارج "في إطار ما يسمى الحرب على الإرهاب", ولكن من دون جدوى.‏

لقد حث الجدل الدائر في الولايات المتحدة الأمريكية الديمقراطيين الأمريكيين على معاودة الهجوم ضد ممارسات التعذيب ـ المصورة في قاعدة غوانتنامو تجاه المشتبه بهم في أعمال إرهابية ـ من خلال التصويت في مجلس النواب على تعديل لقانون النائب الجمهوري جون ماكاين .إذ يقترح هذا النص، الذي أقره مجلس الشيوخ ، أن كل معتقل تحت الإدارة الأمريكية سيكون في منجى "من الممارسات المرعبة ،اللاإنسانية أو المنحطة". ويعارض البيت الأبيض مثل هذا التعديل القانوني.‏

إن الولايات المتحدة الأمريكية ،التي ترفع راية الدفاع عن حقوق الإنسان و القيم الأخلاقية و الديمقراطية في العالم كله منذ وقت طويل ، ها هي اليوم تطالب بلدان أوروبية ، أعضاء في الحلف الأطلسي و فاعلين في الإتحاد الأوروبي ، أن قوموا نيابة عنها ب"الأعمال القذرة" ضد المعتقلين الجهاديين المصدرين إلى أراضيها.إننا لايمكن أن نتصور، و بدرجة أقل أن نسلم ، إذا ما تأكدت ، أن مثل هذه الممارسات من التعذيب ، ليست فقط غير شرعية من وجهة النظر القانون الدولي، بل هي مدانة أخلاقيا.‏

وهكذا، أسف الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر بقوله أنه منذ وصول الرئيس بوش إلى البيت الأبيض :"حصل تغيير راديكالي وعميق في المبادىء السياسية والقيم الأخلاقية " للولايات المتحدة الأمريكية.‏

أما وزيرة الخارجية ،"كونداليزا رايس" ، المتسرعة في الدفاع عن الديمقراطية المصدرة إلى الخارج، هل يمكن لها أن تقبل أن تلتمس الولايات المتحدة الأمريكية من بعض بلدان الإتحاد الأوروبي مخالفة القانون الدولي والأخلاق؟ إزاء القارة العجوز ، يعبر مثل هذا الموقف عن الغطرسة، والإحتقار للآخر.‏

2006-10-30