ارشيف من : 2005-2008
مستقبل المصالحة الوطنية في الجزائر
توفيق المديني : خاص ـ "موقع الانتقاد الإخباري"
كل الحروب تنتهي بعفو شامل لمصلحة هذا الطرف أوذاك من الأطراف المتصارعة. ضمن هذا السياق ، دعا الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة فى خطاب ألقاه أمام إطارات الأمة، ، في قصر الأمم بنادي الصنوبر (20 كلم غرب العاصمة)، أمس، إلى التصويت بكثافة على "مشروع ميثاق السلم والمصالحة الوطنية"، عبر استفتاء ينظم يوم 29 سبتمبر (أيلول) المقبل. وأعلن عن إجراءات وصفها بالمصيرية، تتعلق بإبطال المتابعات القضائية ضد المسلحين، الذين أعلنوا تخليهم عن السلاح، وسلموا أنفسهم للسلطات قبل 13 يناير (كانون الثاني) 2000، على ألا تكون لهم يد في المجازر الجماعية، وانتهاك الحرمات واستعمال المتفجرات في الأماكن العمومية»، والنشطاء الإسلاميين المقيمين في الخارج، وحرّم الممارسة السياسية عن الذين ينادون إلى الجهاد.
ولفت مراقبون الى ان «الميثاق من أجل السلم والمصالحة والوطنية» يختلف عن مبادئ «العفو الشامل» الذي كان دعا إليه بوتفليقة في حملته الانتخابية الأخيرة. كما انه ينص على «حظر ممارسة أي نشاط سياسي» للمتسببين في ما وصلت اليه البلاد من مآس في التسعينات من القرن العشرين، والذين تبنوا «سياسة تدعو إلى ما يُزعم جهاداً ضد الأمة ومؤسسات الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية».
وفُسّر ذلك بأنه إغلاق للباب أمام عودة محتملة لحزب «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» المحظورة، كونها كانت بين الجهات التي دعت الى ما اعتبرته «جهاداً» ضد الحكم الجزائري، عقب الغاء نتائج الانتخابات التي كانت على وشك اكتساحها بداية عام 1992.
وقال بوتفليقة في خطابه أن «الميثاق» يتضمن إلغاء المتابعة القضائية «في حق كل الأفراد وما أكثرهم، الذين تخلوا فعلا عن نشاطهم المسلح، ومن المقرر أن يعرض العفو على متمردين وعناصر قوات الأمن هذا العام بعد استفتاء عام. وأضاف بوتفليقة "غايتي أن أضع حدا نهائيا للعنف...إنني أعوّل على وفائكم للحصول من لدنكم على ما انتظره من مساعدة ومساندة للخروج نهائيا ببلادنا من الأزمة القاتلة التي عاشتها." واقترح بوتفليقة استفتاء حول مبادرة "المصالحة الوطنية"التي يأمل ان تؤدي إلى جعل الاسلاميين يلقون السلاح. وسيمثل المشروع ثاني عفو يقره بوتفليقة بعد استفتاء عام 1999 الذي أعقبه استسلام مئات من الاسلاميين.
وكانت السلطات الجزائرية انتظرت بداية سنة 2005 لكي تعلن التفكيك "شبه الكامل " للجماعة الإسلامية المسلحة التي طبعت عقد التسعينات في الجزائر بطابعها العنفي المروع. فالجماعة الإسلامية المسلحة التي ضعفت إلى حد كبير، و أصبحت مقتصرة على بعض عشرات الأشخاص ، ليست متماسكة على الأرض، على نقيض منافستها "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" وهي الجماعة المتمردة الرئيسية في الجزائر، التي تحافظ على مستوى منخفض نسبيا من العنف، ولكنه ثابت، والتي عوّضت انحسار نشاطها داخل البلاد، والانشقاقات التي تعصف بها ، بعد التحاق "أميرها" السابق حسّان حطّاب بركب المصالحة والوئام، بامتدادات أُفقية عابرة للحدود، يشهد على ذلك الهجوم المسلح:" غزوة بدر موريتانيا" الذي قامت به الجماعة السلفية الجزائرية على قاعدة "لمغيطى" العسكريةالموريتانية.
ويعتبر المحللون السياسيون المختصون بالشأن الجزائري أن المخاطر الأمنية ما زالت مرتفعة، لأن هناك حاليا نحو ألف إسلامي معظمهم من الجماعة السلفية للدعوة والقتال المرتبطة بالقاعدة، يرفضون إلقاء السلاح، وما زالوا نشطين، ولا يرغبون في الاستسلام. كما أن "الجماعة الإسلامية المسلحة" المنحلة حالياً وجماعة أخرى صغيرة تدعى "الجماعة السلفية للإرشاد والدعوة" قد وحّدت قواها بدلاً من قبول العفو.
يبدو الرئيس الجزائري جاداً في تحقيق المصالحة الوطنية في الجزائر، وإحداث تطورات في مجمل القطاعات الحيوية في الدولة والمجتمع. وهذه الرغبة الجادة حظيت برضى وقوبلت بترحيب واسع وتأييد بصورة لا سابق لها ببرنامجه الوفاقي "الوئام" الوطني كفصل من ذلك المشهد الطويل غرض المصالحة الدائمة. ويأتي مشروع العفو الشامل المنتظر طرحه للاستفتاء في المرحلة المقبلة، استجابة لطموحات التشكيلات الوطنية، ومنها الأحزاب السياسية والتركيبات والمنظمات الاجتماعية وفي مقدمتها القيادي الأول لجبهة الإنقاذ المحظورة عباسي مدني أحد المبادرين لهذا المطلب.
وكذلك يلقى هذا التحرك دعماً مباشراً من قبل الرئيس الأسبق أحمد بن بلة، أحد الشخصيات المنتقدة لرجال الحكم طوال السنوات الماضية، والذي بات على رأس لجنة العفو الشامل كخطوة في منتهى الاعتراف بالجميل لمكانته الثورية وتضحياته في صناعة التحرير.
بيد أنه من الصعب أن ننتظر حدوث نقاشات عامة متناقضة بين مؤيدين و معارضين للمصالحة الوطنية. فالمؤيدون يريدون مصالحة وطنية قائمة على تدعيم المسار الديمقراطي في البلاد. وهذا الطرح يدافع عنه الرئيس بوتفليقة.
في حين أن المعارضين "الإستئصاليين" يرفضون تقديم أي تنازل للإسلاميين. والأمر عينه من المتضررين من جرائم الإرهاب، الذين قلّلوا كذلك من فحوى أهداف العفو الشامل وأبعاده الجامعة. علما أن هذا الاعتراض ليس إلا سلوكا معرقلاً لمسيرة إعادة بناء الوحدة الوطنية على قاعدة تعدّد الانتماءات والتيارات في جو يسوده الاستقرار والسلم الأهلي، ويصعد بهم الى باحة للنظر في جميع المسائل العالقة والبحث في نقاط التقاطع والخلافات..
إن المصالحة الوطنية في الجزائر يجب أن تقود إلى إيجاد حل سياسي شامل وعادل للأزمة الجزائرية بأبعادها المختلفة، خاصة البعد المتعلق بالموقف من هوية الجزائر العربية الإسلامية، ومكوّنات شخصيتها.
وإضافة إلى ذلك، هناك المسائل المتعلقة بملفات المفقودين، والمفصولين من وظائفهم خلال الأزمة بسبب إنتمائهم السياسي، وملف المعتقلين السياسيين، وملف المهجرين وملف المسلحين، ثم ملف عناصر الأمن التي تورطت في الأزمة وقامت بممارسات خارج نطاق القانون.
ثم هناك رد الاعتبار لجبهة الإنقاذ الاسلامية من خلال السماح لقائديها عباسي مدني وعلي بلحاج بأن يكونا كغيرهما من المواطنين المتمتعين بمواطنة وحقوق وواجبات كاملة ومتساوية..
إن تسوية هذه الملفات بمجموعها تقود إلى المصالحة الوطنية الحقيقية.
يبقى أن الإسلاميين المعتدلين الجزائريين يبدون حذراً من خطورة مشروع المصالحة الوطنية الذي يجري الترويج له، لأنه يتخطّى أزمة التسعينات في الجزائر، ليشمل (حركة الأقدام السوداء) والحركيين في فرنسا ممن ارتكبوا جرائم بحق الجزائريين خلال سنوات الاستعمار، يقابلها في الوقت ذاته، تصاعد موجة فرنسية لتمجيد حقبة الاستعمار، الأمر الذي يشكل خطراً على أبرز مقومات شخصية الجزائر: الاسلام والعروبة. ولا يعترف المشروع للداخلين في الوئام المدني سوى بالحق في الحياة، وهو ما ألمح إليه بوتفليقة بإشارته الى أن "الفئات التي اندمجت في الأزمة المسلّحة، يجب ألا تنتظر ان تتحوّل إلى فئات سياسية يكون لها حضور في الساحة السياسية، وإنما نعترف لها بالحق في الحياة كمواطنين".
وفي مثل هذا التصريح (من جانب بوتفليقة) اعتراف بيّن على ان المواطنة المشار اليها مواطنة منقوصة.
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018