ارشيف من : 2005-2008
البرتقال الأميركي يتساقط في خريف السياسة الأوكرانية
طه عبد الواحد(*) ـ خاص "الانتقاد.نت"
في خطوة غير متوقعة، على الأقل لم يكن متوقعاً أن تكون بهذه الحدة، أعلن الرئيس الأوكراني فيكتور يوشينكو في الثامن من أيلول/سبتمبر الجاري (2005)عن إقالة حكومة رئيسة الوزراء يوليا تيموشينكو، التي كانت من أبرز الشخصيات السياسية القيادية أثناء "الثورة البرتقالية" في أوكرانيا، وإقالة سكرتير مجلس الأمن والدفاع الأوكراني بيوتر بروشينكو. بهذا يكون يوشينكو قد وضع نهاية لمرحلة من أزمة الصراع على السلطة في أوكرانيا التي تدور رحاها منذ فترة تشكيل الأطر الحاكمة بعد الإعلان عن فوز يوشينكو في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا مطلع العالم الجاري.
جوهر الخلاف بين المعسكرين ـ معسكر الرئيس يوشينكو وعلى رأسهم بروشينكو، ومعسكر رئيسة الوزراء ـ يكمن في عدم قدرة الطرفين على تقاسم الصلاحيات الواسعة جداً التي مُنحت لهما على أمل أن يتمكنا من العمل المشترك من أجل أوكرانيا والشعب الأوكراني حسب قول الرئيس يوشينكو. وبرزت الخلافات عندما أعلنت رئيسة الحكومة عن قرارها بإعادة الخصخصة التي جرت في عهد الرئيس الأسبق ليونيد كوتشما، معتبرة أن ما جرى حينها كان أشبه ببيع متفق عليه للكثير من المصانع الأوكرانية التي يمتلك الآن الجزء الأكبر منها رجال أعمال ومؤسسات روسية. حتى أن بعض قرارات رئيسة الوزراء بخصوص تحديد أسعار النفط جرّت أوكرانيا إلى أزمة نفطية لم يسبق أن تعرضت لها البلاد.
المعسكر الثاني الذي يتزعمه بروشينكو سكرتير مجلس الأمن، يُقال أنه عمل على حماية مصالح رجال الأعمال والشركات الروسية العاملة في أوكرانيا، نظراً لطبيعة علاقة المصالح المتبادلة بين بروشينكو (الأليكارخ) رجل النفوذ الاقتصادي غير الحكومي سابقاً، مع ممثلي الأعمال ورجال الاقتصاد من روسيا. من هنا بدأ التنافس بين الإطارين القياديين الأعلى في أوكرانيا. أما فتيل التفجير المباشر فكان بإعلان وزير الخارجية الأوكراني استقالته متهما حاشية الرئيس بالفساد. شخص آخر من معسكر تيموشينكو اتهم معسكر الرئيس بأنهم يسيرون خارج خط السياسة الخارجية المتفق عليه بالتوجه نحو الاندماج مع الغرب ومؤسساته.
هذه هي الأسباب التي يمكن وصفها بالمباشرة لما يجري في أوكرانيا، أما الأسباب البعيدة والأكثر عمقاً فهي تكمن في سياسة الرئيس يوشينكو الذي لم يركز على الوضع الداخلي معتقداً أنه سلم الأمور لحلفاء قادرين على العمل بروح جماعية وتسوية أي خلافات بينهم دون ضجيج ودون أن تتأثر البلاد بذلك. في هذه الأثناء ركز يوشينكو على ما يمكن وصفه بدور في إطار استحقاقات استراتيجية الدول الغربية التي دعمته ليصل إلى السلطة، وتحديداً في خدمة استراتيجية الولايات المتحدة الهادفة إلى نقل عدوى الثورات إلى باقي الجمهوريات السوفيتية وتخليصها من النفوذ الروسي. في هذا المجال يكفي أن نذكر الدعوة التي أطلقها يوشينكو مؤخراً لتأسيس منظمة الدول الديموقراطية، على أمل تشكيل بديل عن رابطة الدول المستقلة التي تمارس روسيا عبرها نفوذها على الدول الأعضاء. إضافة إلى هذا اتفق يوشينكو مع الرئيس الجورجي قائد (الثورة المخملية) على خطوات عمل مشتركة لدعم المعارضة البيلاروسية للإطاحة بنظام الرئيس لوكاشينكو، الرجل الأخير الذي ما زال يؤكد على ضرورة إعادة بناء الاتحاد السوفيتي ويسعى إلى اتحاد مع روسيا.
وتأكيداً على أن يوشينكو لم يعط الوضع الداخلي الاهتمام المطلوب، قال الوزير المستقيل، نائب رئيسة الحكومة نيكولاي تومينكو في بيان الاستقالة: "...أنا واثق بأن الرئيس ليس على علم بحقيقة الوضع في البلاد، ...".
إن قرار الرئيس بإقالة هذه الشخصيات الهامة جداً في سياسة أوكرانيا "البرتقالية" لم يضع حداً للأزمة، بل فتح أبوابها لتتحول إلى صراع مؤجل ستستمر حلقاته في الانتخابات البرلمانية الأوكرانية في آذار/مارس 2006. وهنا تجدر الإشارة إلى أن يوشينكو وتيموشينكو وكل القياديين (البرتقاليين) اتفقوا منذ الأيام الأولى على أن تصبح أوكرانيا دولة برلمانية يشكل فيها رئيس الحكومة مركز القرار، وتقوم الأغلبية البرلمانية بتعيين رئيس الحكومة. وسيبدأ العمل بالدستور الجديد في العام القادم، الأمر الذي قد يساعد على عودة رئيس الحكومة المعزولة إلى السلطة لكن إلى إطار أكثر أهمية وأوسع صلاحيات من الذي غادرته، في حال حصولها على أغلبية مقاعد برلمانية.
ويرى البعض أن تيموشينكو التي لم تأت سياسة حكومتها بنتائج إيجابية للاقتصاد الأوكراني، مستفيدة من الأزمة الحالية، حتى أن بعض المراقبين يعتقدون أنها دفعت حلفائها إلى التوتير على أمل أن يقوم الرئيس بهذه الخطوة، فتتخلص هي من مسؤوليتها عن الأوضاع الاقتصادية المتأزمة، وستبدو بعد إقالتها كبطلة تقاوم الفساد، ولهذا طُردت خارج أروقة السلطة، وهي تحصد بهذا تأييد نسبة لا بأس بها من الجماهير، الأمر الذي يمكن النظر إليه على أنه جزء من سعيها إلى المنصب القيادي الأعلى في البلاد.
مؤشر آخر يدفع إلى الاعتقاد بأن السيدة الحديدية الأوكرانية "تيموشينكو" اتجهت نحو تأجيج التنافس بإدراك مطلق لما تفعله، وفي إطار خططها السلطوية المستقبلية، حيث كان معاوني السيدة تيموشينكو قد أجروا مباحثات مكثفة مع السفير الأميركي في العاصمة كييف لم يكشف عن مضمونها. لكن مصادر غير مؤكدة أشارت إلى أن هؤلاء عبروا للسفير الأميركي عن قلق رئيسة الحكومة من سياسة يوشينكو التي لا يمكن وصفها بأنها تركز على التوجه نحو الغرب والاندماج معه.
مهما كانت أسباب الأزمة فإن ما تشهده أوكرانيا حالياً أتى ليؤكد أن كل السياسات المستوردة غير ملائمة للمناخ المحلي، والبرتقال الأميركي غير قادر على تحمل خريف السياسة الأوكرانية. أما الربيع فقد يأت بألوان وثمار سياسية ترتبط بجذور تاريخ الدولة التي كانت يوماً جزء من كيان موحد للشعوب السلافية (الروس والبيلاروس والأوكرانيين).
(*)كاتب صحافي مختص بالشؤون الروسية
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018