ارشيف من : 2005-2008

المأزق السياسي في ألمانيا بعد الإنتخابات

المأزق السياسي في ألمانيا بعد الإنتخابات

توفيق المديني‏

أظهر الألمان في الإنتخابات التي جرت الأحد 18 أيلول/ سبتمبر الماضي ، انهم يتقبلون بأكثرية كبيرة مبدأ القيام بإصلاح عميق لنظامهم الإجتماعي، لكنهم يظلون مترددين إزاء وتيرة الإصلاح هذا، و قلقين من التضحيات التي يتطلبها. هذا التردد، هو الذي دفع المستشار الألماني الديمقراطي الإشتراكي غيرهارد شرودر إلى تقديم موعد الإنتخابات العامة خوفاً من أن يتخلى عنه جناح حزبه اليساري، حيث وصفت مجلة "دير شبيغل" مسعاه هذا أنه "الإنتحار خوفا من الموت"، الأمر الذي كلف غالياً الحزبين الألمانيين الكبيرين: الديمقراطي الإشتراكي والديمقراطي المسيحي.‏

لقد اختار الألمان أن لا يختاروا في الإنتخابات العامة الأخيرة، التي لم تفرز أي أكثرية واضحة. بكل تأكيد عاقبوا الأكثرية السابقة التي يقودها شرودر، لكنهم لم يمنحوا أكثرية كافية للمعارضة اليمينية بزعامة انجيلا ميركل تمكنها من تشكيل حكومة. وتفيد آخر نتائج رسمية موقتة نشرتها اللجنة الانتخابية ان الاتحاد الديموقراطي المسيحي وفرعه البافاري، الاتحاد الاجتماعي المسيحي، حصلا على 35.2 % من الاصوات، (مقابل 38.5 عام 2002)، بينما حصل حليفهما الحزب الليبرالي على 9.8 % (7.4 % عام 2002).‏

وهذا يعني ان الاحزاب الثلاثة حصلت على 45 % من الاصوات، أي 225 مقعداً بينما يفترض ان تحصل على 48.5 % لتحقق الغالبية المطلقة من مقاعد مجلس النواب أي 307 مقعداً من أصل 612 مقعداً في البرلمان الألماني (البوندستاغ). أما الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي يتزعمه شرودر فقد حصل على 34.3 % من الاصوات (38.5 % عام 2002) وحليفه حزب الخضر 8.1 % (8.6 % عام 2002)، أي 222 مقعدا.‏

بالنسبة للمحللين الغربيين، هناك ثلاثة أطراف خاسرة في هذه الإنتخابات المبكرة، وثلاثة أطراف منتصرة. الخاسر الأكبر هو حزب انجيلا ميركل، ذلك أن الديمقراطية المسيحية سجلت أسوأ ثالث نتيجة لها في مرحلة ما بعد الحرب (31 % في 1949)، علما أن إستطلاعات الرأي كانت ترشحها لنيل 47% من أصوات الناخبين. الخاسر الثاني هو بكل تأكيد الإشتراكيين الديمقراطيين -رغم صعودهم الطفيف في نهاية الحملة الإنتخابية- إلا أنهم سجلوا أسوأ نتيجة لهم منذ 1957 عندما حصلوا على تأييد 31.8 % فقط من الناخبين. أما الخاسر الثالث فهو أجهزة الإعلام، التي ما انفكت تحذر الناخبين من خطورة إنتصار تحالف كبير وهذا ما اختاره الناخبون بدقة.‏

من جانب المنتصرين ، هناك بالدرجة الأولى الأصوليين من النيوليبرالية، الذين نجحوا في جذب قسم من الجسم الإنتخابي للديمقراطية المسيحية، ليشكلوا مع الحزب الليبرالي قطباً نيوليبرالياً حصل على ما يقارب 10%.‏

وهناك ثانياً، الكتلة التي أطلت لأول مرة وبقوة على ساحة العمل السياسي، والمتكونة من الإشتراكيين اليساريين بقيادة أوسكار لافونتان الزعيم السابق للحزب الديمقراطي الإشتراكي، الذي انشق عن شرودر، ومن الشيوعيين الجدد المنحدرين من الحزب الشيوعي الألماني السابق في شرق البلاد ومؤيديهم الذين خاب أملهم في الغرب. وحصل هذا اليسار المتشدد برعاية الشيوعي السابق غيرغور غيزي والزعيم السابق للحزب الاشتراكي الديموقراطي اوسكار لافونتين على 8.7 % من أصوات الناخبين مقابل 4 % فقط في 2002.‏

لقد عاد أوسكار لا فونتان إلى البرلمان تحت إسم حزب الإشتراكية الديمقراطية المنغرس بقوة في ألمانيا الشرقية،بكتلة نيابية يسارية مؤلفة من 54 نائبا. وبهذه العودة، ثأرلافونتان من غريمه التقليدي غيرهارد شرودر، الذي انشق عنه سنة 1999، بسبب تبني المستشار شرودر الملقب بـ"رفيق ارباب العمل"، سياسة إقتصادية أكثر ليبرالية. ونتيجة لذلك دفع شرودر ثمن إصلاحاته المؤلمة للنظام الاجتماعي الالماني التي تركت في معظم الاحيان انطباعاً لدى أكثر طبقات السكان تواضعاً وهم الناخبون التقليديون للحزب الاشتراكي الديموقراطي، بأنهم الوحيدون الذين يدفعون ثمن العولمة الاقتصادية والسياسية التي نجمت عن الاصلاحات.‏

أما المنتصر الأخير، فهو حزب الخضر بزعامة وزير الخارجية يوشكا فيشر، الذي يخشى أن ينتقل إلى المعارضة.‏

خلال عقود من الزمن، ظل المشهد السياسي الألماني مستقراً، إذ كانت اللعبة السياسية التي كان يتبارى فيها ثلاثة أطراف: الديمقراطيون المسيحيون، والديمقراطيون الإشتراكيون، والليبراليون، بسيطة لكن هذه اللعبة تم خلط أوراقها مع دخول حزب الخضر إلى البوندستاغ سنة 1983، وتعقدت أكثر بعد إنجاز الوحدة الألمانية في سنة 1990. ويأتي ظهور حزب يساري معارض بصورة راديكالية ليدخل عنصر خامس، الذي سيجعل تشكيل الأكثريات غاية في الصعوبة.‏

نتائج الإنتخابات أدخلت ألمانيا في أزمة طالما حاولت جاهدة تفاديها، إنها أزمة تشكيل التحالف العريض الذي سيحكم البلاد.فما هي السيناريوهات المطروحة ؟‏

بداية ، عرفت ألمانيا أزمة حكم مماثلة، من العام 1966 إلى العام 1969 في عهد المستشار كورت غيورغ كيسينجر، وشكلت هذه المرحلة "نقطة سوداء" في التاريخ السياسي الألماني.‏

إن التحالف العريض ليس ممكناً إلا إذا تخلى كل من غيرهارد شرودر وانجيلا ميركل، و هذا من غير الممكن حدوثه، لأنهما خاسران ومع ذلك فإن أي إئتلاف حكومي يتم تشكيله لن يحقق الإستقرار. فالحزب الديمقراطي المسيحي المتقدم بثلاثة نواب سيكون رهينة للحزب الديمقراطي الإشتراكي. أما الصيغة الثانية، فتتمثل في محاولة كل من شرودر و ميركل تشكيل حكومة أقلية. وهذا يعني أنهما سيتقدمان أمام البوندستاغ، لكي ينتخب المستشار عن طرق الإقتر اع السري، كما يريد ذلك القانون، ومن ثم يشكل المستشار المنتخب الحكومة. أما السيناريو الثالث الممكن للتحالف فيتشكل من انضمام الحزب الليبرالي إلى التحالف الذي كان قائماً، أي إلى الاشتراكيين والخضر، وهذه الصيغة، إضافة إلى رفضها مطلقاً من قبل الليبراليين، فهي تحوي بداخلها مجموعة من التناقضات الفكرية وتضارب المصالح ما يجعلها قابلة للانفجار في أي لحظة.‏

في ظل هذا الإستعصاء ،هل ستدخل ألمانيا في مرحلة حكومة التعايش، أي الحكم برأسين؟‏

2006-10-30