ارشيف من : 2005-2008
في الذكرى الأربعين لإستشهاد الزعيم المهدي بن بركة : القضية التي لم تخرج من النفق المظلم
كتب توفيق المديني
لم يتسن للشهيد مهدي بن بركة الذي خاض الكفاح التحرري ضد المستعمر الفرنسي في المغرب أن يكون رجل دولة في بلاده المستقلة, على نقيض الجنرال محمد أو فقير الذي كان في تلك الفترة جنديا في الجيش الفرنسي يحارب في الهند الصينية وغيرها, وأسندت إليه وزارة الداخلية سنة 1962 , قبل أن يصبح الرجل الثاني القوي في الدولة المغربية بل ويفكر في التحول إلى الرجل الأول, عندما تبين أنه وراء محاولتين انقلابيتين استهدفتا القصر الملكي في 1971 و1972.
وعندما تولى الملك الراحل الحسن الثاني العرش على اثر وفاة والده ملك الاستقلال محمد الخامس في أذار/ مارس 1961, شيّد القمع المسلط على القوى الوطنية والديمقراطية المغربية خصوصاً في فترة 1963- 1965, بسبب ما يسمى آنذاك بـ "مؤامرة " الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (تموز 1963 ) واندلاع حرب الحدود بين الجزائر والمغرب في العام عينه , وعمليات التزوير التي شهدتها الانتخابات التشريعية في أيار/مايو 1963 . وكان المهدي بن بركة المعارض العنيد لنظام الحسن الثاني , و " دينامو " اليسار المغربي يعيش في المنفى منذ عام 1963, بعد أن حكم عيه بالإعدام مرتين في المملكة المغربية , وأصبح " وكيل ثورة متجول " حسب تعبير جون لاكواتير. إنه يتنقل بين كل العواصم التقدمية في العالم الثالث , من الجزائر إلى القاهرة, مروراً بهافانا . ويروي الضابط السابق أحمد البخاري الذي كان يعمل في المقسم التليفوني في جهاز مخابرات سري , كيف أن جهاز الاستخبارات " الكاب 1 " هو المسؤول عن تصفية المعارض المهدي بن بركة عندما تم اختطاف هذا الأخير أمام " براسيري ليب " الكائنة في جادة سان جرمان في باريس ، من قبل عميلين سريين من المخابرات الفرنسية هما " روجيه فويتوت , ولويس سوشون " , اللذين يعملان في شرطة مكافحة المخدرات , ويعملان أيضاً في أجهزة المخابرات المغربية السرية من أجل اختطاف المعارض بن بركة .
غير أنه في هذه المرة , عندما صعد مهدي بن بركة بمحض إرادته في سيارة بيجو 403 التابعة لقسم الشرطة , مثبت إلى الخلف بين " فويتوت " ومجرم أخر محكوم عليه سابقاً واسمه " جوليان ليني " , أحد المجرمين الأربعة الذين شاركوا في الاختطاف أيضاً , يبحر بن بركة في آخر رحلة له . فـ " المهمة منجزة " , والطرد جاهز للشحن , هذه هي المدونة باختصار , التي أملاها رئيس قسم مكافحة التخريب محمد عشعاشي إلى مرؤوسيه في الرباط , الجنرال أوفقير , والرائد أحمد الدليمي . فالأول هو الذراع الأيمن للملك , ووزير داخليته , ومدير الأمن الوطني , ورئيس أجهزة المخابرات الخاصة " الكاب 1 " , أما الثاني فهو نائب الجنرال أوفقير . وبالنسبة لرؤساء " الكاب 1" كما لكل فريقهم , تخص الرسالة المقتضبة القادمة من باريس العملية الأكثر طموحاً التي تحققت إلى حد الآن , إنه نصر كبير بعد سبعة أشهر من تتبع تحركات المهدي بن بركة عبر العالم .
وكان قرار الاختطاف قد اتخذ من قبل الملك الراحل الحسن الثاني في اجتماع خاص ضم رؤساء أجهزة المخابرات في القصر يوم 25 آذار / مارس 1965 , ثالث وآخر يوم من الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في الدار البيضاء في 23 آذار/مارس , وذهب ضحيتها المئات من القتلى . ومن بين الذين شاركوا في الاختطاف عميلان مغربيان هما محمد حليم وحسن بن يوسف امتطيا نفس الطائرة مع بن بركة من جنيف إلى باريس يوم 29 تشرين الاول/أكتوبر 1965, وثلاثة عملاء مغاربة سريين كانوا في قاعة الانتظار بمطار أورلي هم : محمد بتسين , وعبد القادر درفوفي , ورجل ثالث اسمه " الشتوكي " وهو اسم مستعار للضابط ميلود التونسي . وقد وصل المختطف بن بركة إلى ضاحية باريس الجنوبية " فونتيناي لوفيكومت " , واستقر في فيلا يملكها جورج بوشيسيش , وهو رئيس عصابة المجرمين ومعروف عنه أنه كان يعمل لمصلحة الغيستابو الفرنسي , وأسهم بعد التحرير في إنشاء جهاز المخابرات الفرنسي لمكافحة التجسس , وأصبح يعيش لاحقاً في شيخوخة ملؤها النعيم في المغرب . وفي هذه الفيلا , اكتشف بن بركة أربعة وجوه لأشخاص يعملون في جهاز " الكاب 1" , هم : محمد عشعاشي وأخوه الكبير عبد الحق , وعبد القادر الصاك الذي روى البخاري أنه من كشف له ملابسات استنطاق بن بركة ومقتله في باريس , ومحمد مسناوي , وكذلك الممرض الحسوني الذي حقنه بجرعة قوية قد تكون أدت إلى وفاته . وقد عذب بن بركة تعذيباً وحشياً على أيدي الجنرال الراحل محمد أوفقير ومساعده الرائد أحمد الدليمي , اللذين جاءا خصيصاً إلى باريس على متن طائرة خاصة . ويقول أحمد البخاري أن جثة بن بركة نقلت في طائرة عسكرية من باريس إلى دار المقري في الرباط , حيث ذوبت هناك في حوض من الأسيد , وهو أمر قال سياسيون مغاربة وفرنسيون أنه يتطلب بالضرورة تواطؤ مسؤولين فرنسيين سمحوا بالطائرة بالإقلاع من باريس . وفي نطاق هذا التواطؤ بين أجهزة المخابرات المغربية والفرنسية , إن لم نقل بين رجال السياسة على أعلى مستوى في كلا الدولتين الفرنسية والمغربية , تم عقد الاتفاق السري في " قضية بن بركة " , لأن جريمة الدولة التي اقترفها المغرب على الأراضي الفرنسية أصبحت جريمة دول بالمعنى الجماعي , تورطت فيها فرنسا وحتى الولايات المتحدة الأميركية . و في ظل المناخ السياسي الدولي الراهن تعتبر تلك الجريمة ضد الزعيم بن بركة بمنزلة عمل إرهابي يعاقب عليه القاون الدولي.
وأول أجنبي يعلم أن جثة بن بركة ستنقل إلى المغرب هو العقيد " مارتان " هو اسم مستعار , وهو ضابط أميركي يعمل في وكالة الاستخبارات المركزية , يوم 30 تشرين الاول/أكتوبر 1965 , أي بعد ساعات قليلة من وفاة بن بركة تحت التعذيب . وكان العقيد " مارتان " وزميلاه " سكوت " و " وستيف " من وكالة الاستخبارات المركزية يعملون في مهمة بناء جهاز المخابرات المغربية منذ عام 1960 . وقد أشرف رجال استخبارات أميركيين على تشكيل جهاز " الكاب 1 " وتنظيمه , الذي كان يحتل مبنى في شمال العاصمة الرباط غير بعيد من صومعة حسان , وتحول في وقت لاحق إلى مبنى يتبع وزارة العدل المغربية . وفي بداية السبعينات أعلن رسمياً في الرباط قيام جهازين للاستخبارات , أحدهما مكلف بالاستخبارات الخارجية والأخر بالاستخبارات الداخلية . وعين الملك الراحل الحسن الثاني مسؤولين رفيعي المستوى للاشراف على الجهازين . ووضع الملك بذلك حداً نهائياً لنشاط جهاز " الكاب 1 " الذي كان يرأسه الجنرال عبد الحق عشعاشي بإشراف الجنرالين محمد أوفقير وأحمد الدليمي , وكان مهمته تكمن في التصدي لأي محاولة لقلب النظام , خاصة بعد أحداث 1963 التي حوكم فيها قياديون كانوا ينتسبون إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية .
وتعتبر " دار المقري " معتقلاً رهيباً , إذ يوجد فيه حوض للأسيد منذ نهاية عام 1961 , وتم تذويب عشرات المعتقلين فيه . ويقول البخاري بأن العقيد الأميركي " مارتان " هو الذي كلفه بصناعة هذا الحوض , إذ شرح له بأن " مغطسة الموت " هذه كانت تستخدم في ايران في الخمسينات , عندما كان هذا العميل الأميركي الأنف الذكر يعمل في طهران . وتقول صحيفة لوموند الفرنسية في عددها الصادر 1-2 تموز 2001 , بأن أحمد الدليمي سلّم الملك الراحل الحسن الثاني نسخة من الفيلم الذي صور فيه طريقة القاء جثة المهدي بن بركة الموضوعة في كيس من البلاستيك في حوض الأسيد بحضور كل من أحمد الدليمي نائب رئيس " الكاب 1 " , وميلود التونسي , والياس " الشتوكي " , ومحمد نويني , والممرضان بو بكر الحسوني وهميده .
وتضيف لوموند أن الفرنسيين الأربعة الذين ينتمون إلى عالم الإجرام , وشاركوا في اختطاف بن بركة لجأوا إلى المغرب مباشرة بعد مقتل بن بركة من قبل مسؤولين مغاربة , وهم : جورج بوشيسيش الذي غادر باريس يوم 1 نوفمبر 1965 , وجان باليس , وبياردوباي , وجوليان ليني , وقالت إن هؤلاء المتهمين الرئيسيين كانوا يديرون محلات لبيع الخمور وفنادق للسياحة في المغرب .غير أن عميلاً فرنسياً آخر هو ابن عائلة جورج فيغون المنظر للعصابة , توفي في ظروف غامضة في باريس – وقالت الرواية الفرنسية الرسمية أنه " انتحر " – على اثر اعطائه لمجلة الإكسبريس الفرنسية الصادرة بتاريخ 10 كانون الثاني 1966 , معلومات خطيرة يتهم فيها الجنرال أوفقير بقتل المهدي بن بركة , خصوصاً وأنه أفشى بقائمة الأسئلة المحددة التي يعتقد انه طرحت على المهدي بن بركة بعد اقتياده إلى فيلا في ضواحي باريس , إذ أنها تعتبر شاهداً على الجريمة .
وقد اعتقلت المخابرات المغربية كلا من بوشيسيش , ودوباي , وليني , في بداية أذار/مارس 1971 في دار المقري , حيث اختفوا نهائياً في نيسان 1974 , لكي يعودوا موتى إلى فرنسا , بوشيسيش في 29 أكتوبر 1976 تاريخ ذكرى اختطاف بن بركة , ليني يوم 14 نوفمبر , ودوباي يوم 16 نوفمبر من العام عينه . أما المجرم الرابع جون باليس فقد توفي في فرنسا في آذار/مارس 1976 . وعلى الرغم من قتل هؤلاء الفرنسيين الثلاثة في المغرب ,. والذين شاركوا في عملية اختطاف بن بركة , إلا أن السلطات الفرنسية لم تحرك ساكناً حول هذا الموضوع .
ويجمع المحللون السياسيون للشؤون المغربية أن هؤلاء المجرمين الفرنسيين دفعوا ثمن الصعود القوي للعقيد أحمد الدليمي على حساب الجنرال أوفقير. فبعد فشل محاولة الانقلاب في عام 1972 , قام الرجل الثاني في المملكة المغربية العقيد أحمد الدليمي بالتخلص نهائياً من الشهادات المربكة لعملية قتل بن بركة , ثم قام لاحقاً بحل جهاز " الكاب 1 " في عام 1973 .
لقد أسهمت اعترافات أحمد البخاري عميل المخابرات المغربية , وورود اسم الضابط الأميركي مارتان في كشف " جريمة قتل " , وضيقت الخناق أكثر فأكثر على كل من الرباط من جهة , وباريس وواشنطن من جهة أخرى , لأن المعارض بن بركة كان بصدد إعداد مؤتمر دولي مناهض للولايات المتحدة في هافانا , وكان ينظر إليه بوصفه " مشاكساً " من وجهة نظر واشنطن , خصوصاً في ضوء علاقاته مع الرئيس المصري الراحل عبد الناصر.
وهكذا عاد شبح بن بركة يطارد الجميع في المغرب , إذ بدأت عملية نشطة بحثاً عن الحقيقة . فقدم المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي متزعم الائتلاف الحكومي في المغرب شكوى إلى قاضي التحقيق في محكمة الاستئناف بالرباط وذلك على ضوء المعطيات الجديدة التي كشفها العميل البخاري . وإذا كانت جثة بن بركة قد أذيبت في حامض الأسيد , فإن الحقيقة لا يمكن أن تذوب أو تموت بتقادم الزمن , ولا مسؤولية الذين كانوا وراء قتل بن بركة , واختفاء 600 عضو من المعارضة اليسارية واتحادات العمال منذ بداية الستينات.
إن الكشف عن الحقيقة يتطلب اشتراك فرنسا في التحقيق , وإلا فإن قضية بن بركة لن تخرج من النفق المظلم.
وهذا ما جعل الابن الأكبر للمهدي بن بركة زعيم المعارضة المغربية في المنفى، الذي اختفى في باريس قبل أربعين سنة في يوم الجمعة 29 تشرين الأول/أكتوبر 1965 انه "لن يكتفي بحقيقة مزورة" حول مقتل أبيه.
وأضاف بشير بن بركة في مؤتمر صحافي أمس أن "قصر المسؤولية" على اثنين من المسؤولين المغاربة حينها وهما اللواء محمد اوفقير وزير الداخلية ومساعده احمد الدليمي "سيكون بمثابة تزوير للتاريخ".وأكد "أن المسؤولية السياسية لهذا العمل الإجرامي الذي أدى إلى مقتل والدي منبثقة عن أعلى مستوى في الدولة المغربية" في إشارة إلى الملك الحسن الثاني، مؤكدا في الوقت عينه على أن احترام الديمقراطية يفرض على فرنسا رفع السرية عن ملف والده.
من جهته أعرب المحامي موريس بوتان الذي يدافع عن أسرة ابن بركة منذ أربعين سنة وهو آخر محامي العائلة الذي ما زال على قيد الحياة عن أمله في أن تتوصل الإنابة القضائية التي جددت في أيار/مايو 2005 لدى القضاء المغربي إلى تحديد مستوى "مسؤولية وتواطؤ الأجهزة المغربية والفرنسية". ويريد المحامي أيضا توضيح ظروف مقتل المهدي بن بركة بعد خطفه (عن خطأ أو عملية اغتيال) .
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018