ارشيف من : 2005-2008
إضراب الجوع سلاح معركة من أجل الحرية في تونس
كتب توفيق المديني
يسترعي إنتباه المحللين المتابعين للشؤون السياسية في تونس اتساع رقعة الحركة الاحتجاجية في الداخل، واتساع صداها بالخارج خاصة بعد أن قررت ثمانية شخصيات من نخبة المجتمع السياسي والمدني القيام بإضراب جوع مفتوح بدا منذ 18 تشرين الاول/ أكتوبر الماضي واستمر 42 يوما.
ويأتي إضراب الجوع هذا في ضوء احتكار السلطة التونسية لكل شيء خلال أكثر من أربعين عاما ، إذ ً أسست نظاماً تسلطياً شمولياً فئوياً ادى الى انعدام السياسة في المجتمع وخروج الناس من دائرة الاهتمام بالشأن العام، مما اورث البلاد هذا الحجم من الدمار المتمثل بتهتك النسيج الاجتماعي الوطني للشعب التونسي.
فقد تفاقمت الأمراض الاجتماعية في البلاد مثل الجريمة التي تتخذ يوما بعد يوم أبعادا مفزعة (سرقة، اعتداءات، قتل، اغتصاب ...) الأمر الذي جعل التونسيات والتونسيين يشعرون بانعدام الأمن في وضح النهار وفي قلب العاصمة والمدن الرئيسية، وهم يلاحظون أن الحزم الذي يظهره البوليس في ملاحقة وقمع المناضلين السياسيين والحقوقيين والنقابيين وبشكل عام أصحاب الرأي المخالف يقابله تقاعس كبير في التصدي لانتشار الجريمة والبحث في أسبابها وسبل علاجها، فما يهم السلطات هو ضمان أمن الطغمة الحاكمة لا ضمان أمن المواطن.
وإلى جانب الجريمة ينتشر البغاء والكحولية وتناول المخدرات والاتجار بها في كافة أنحاء البلاد.
إضراب عن الطعام يلاحق إضراب عن الطعام ، تلك هي الحالة السائدة في تونس منذ عدة سنوات.فقد قامت المحامية راضية نصراوي الناشطة الحقوقية في إطار الدفاع عن حقوق الإنسان بإضراب عن الطعام قبل عدة سنوات. وكان سبقها على هذا الطريق الصحافي توفيق بن بريك.
وفي الذاكرة الجمعية الأوروبية، ظل الإضراب عن الطعام مرتبطا بقضية إيرلندا، حتى وإن كان الزعيم الهندي غاندي قد مارسه إبان النضال السلمي ضد الكولونيالية البريطانية.
ومع بداية الثمانينات، قام عشرة قياديين من منظمة الجيش السري الإيرلندي بإضراب جوع مفتوح، طالبوا من خلاله السلطات البريطانية الإعتراف بوضعهم كمساجين سياسيين. بيد أنهم ووجهوا بموقف صارم من المراة الحديدية الحاكمة آنذاك مارغريت تاتشر، فتوفيوا جميعا في السجن الواحد تلو الآخر.
وعلى الرغم من هذا الإخفاق، استمرت الإضرابات عن الطعام تتكرر في بلدان مختلفة من العالم ، ولأسباب مختلفة.
فكان للإتحاد السوفياتي مضربيه عن الطعام، وكذلك الأمر في بولندا، ويوغوسلافيا، والنيبال و إسبانيا.حتى فرنسا لم تنج من الإضراب عن الطعام، إذ إن أعضاء من منظمة العمل المباشر قاموا بإضراب عن الطعام طالبوا فيه أيضا بالحصول على وضع مساجين سياسيين.
ومع بداية الألفية الثالثة، اتخذت الإضرابات عن الطعام في تركيا طابعا مأساويا، حين قام أكثر من خمسين مناضلا ومناضلة من منظمة يسارية متطرفة في عامي 2000و 2001، بإضراب عن الطعام مفتوح للمطالبة بتحسين شروط إعتقالهم داخل السجون التركية المبنية حديثا، بوصفها لا إنسانية.
وعلى الرغم من تراجع إستخدام سلاح الإضراب عن الطعام في العالم، إلا أن المغرب العربي شذ عن هذا التوجه العام. فالإضراب عن الطعام لايزال منغرسا في الثقافة السياسية الجمعية منذ وقت طويل، ولا تشير الأحداث أنه في إطار الزوال. وعلى النقيض من ذلك، فإن المرشحين لهذا الإنتحار البطيء ما انفكوا في تزايد مستمر، خاصة في تونس. إنهم يأتون في معظمهم من أوساط مثقفين، بعضهم صحافيين، وبعضهم الآخر حقوقيين، والبعض الثالث نقابيين أو أساتذة.
وفي بعض الأحيان يبدو أن السلاح المستخدم (الإضراب عن الطعام) يكون عكسيا طرديا مع القضية التي يدافع عنها المضرب. وهكذا بررت المحامية راضية نصراوي حركتها بالمضايقات والإزعاجات التي يتعرض لها وكلاؤها، و أقرباؤها، و حتى هي شخصيا من جانب أجهزة الأمن التونسية. إن الأمر يتعلق بالدفاع عن "كرامتي كمحامية ، وكمرأة تونسية" حسب ما كتبته في صحيفة لوموند الفرنسية..
إن المضربين المغاربيين عن الطعام المستعدين للموت دفاعا عن قضاياهم ، يتراجعون أكثر فأكثر في المدد لرهان قابليتهم للموت.
ففي عام 2000 صمد الصحافي التونسي توفيق بن بريك لمدة 42 يوما. وكان بن بريك حكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات بسبب نشره صورة كاريكاتور تنتقد قصر قرطاج.
أما زميله المغربي علي المرابط، فلم يوقف إضرابه عن الطعام إلا بعد إنقضاء 50 يوما. واستمرت المحامية راضية نصراوي في إضرابها عن الطعام لمدة 57 يوما.
وكانت الشخصية الرمزية للمضربين الإيرلنديين عن الطعام، بوبي ساند ، قد توفيت في السجن في اليوم الـ65، في عام 1981.
ومؤخرا أنهت ثمانية شخصيات من قيادات الأحزاب والجمعيات الأهلية إنهاء الإضراب عن الطعام الذي تنفذه منذ 18 تشرين الاول/أكتوبر الماضي ـ بعد أن صمدوا لمدة 42 يوماـ مطالبة الحكومة التونسية بسن عفو اشتراعي عام، وتحرير قطاع الإعلام من القيود، والترخيص لأحزاب وجمعيات غير مجازة، واطلاق سراح نحو 500 سجين سياسي، والسماح بالعمل السياسي والنقابي.
وكان وزير العدل التونسي البشير التكاري قد شدد مؤخرا انه لا يوجد اي سجين سياسي في البلاد وان حتى السجناء المنتمين لتيارات سياسية مختلفة حوكموا بسبب جرائم حق عام وجرائم ارهابية. وقال ان جميع الحريات متاحة ولم يسجن احد في تونس بسبب ارائه.
وأعلن المضربون في بيان قرىء في مؤتمر صحفي أنه استجابة "للدعوات الدولية الصادرة بالخصوص من الوفد الذي زارنا وعلى رأسه شيرين عبادي...وسيديكي كابا اللذين ناشدونا ايقاف الاضراب باعتباره حقق أهدافه في حشد المساندة الداخلية ولفت الانظار الى مأزق الحريات في تونس...فاننا المضربون قررنا ايقاف اضرابنا عن الطعام".
واضاف البيان "حقق الاضراب الهدف المرسوم له بنسبة فاقت التوقعات فقد خلق الاضراب حركة سياسية جديدة..وقلص بالخصوص الهوة التي كانت تفصل الحركة النقابية عن المجتمع المدني بأحزابه". وأضاف المضربون :أن إنهاء الإضراب يشكل «بدءاً لمرحلة جديدة عنوانها توحيد القوى السياسية والاجتماعية حول أرضية مشتركة اختزلتها مطالب الإضراب الثلاثة».
إن ممارسة الإضراب عن الطعام كسلاح معركة في تونس و باقي البلدان المغاربية بدرجة أقل ، يعكس لنا الطبيعة التسلطية للأنظمة السياسية الحاكمة ـ سواء منها الجمهورية أو الملكية ـ إذ إنها جميعها غير مستعدة للمصالحة الوطنية الحقيقية مع السياسيين المعارضين، الذين يطالبون بإحلال دولة الحق و القانون. فهذه الأنظمة يمكن لها أن تتسامح مع وجود معارضات هامشية، و يمكن أن توفر لها فضاءا نسبيا من الحرية، ولكنها تمنعها من إسماع صوتها للرأي العام المحلي أو الدولي.
فالثقافة الديمقراطية، بما هي سيرورة، وعملية ذهنية، ومحرك أساسي للإنتاج ، إنتاج الأفكار و المفاهيم الكبرى، التي من شأنها أن تجعل المجتمع في حركة دائمة، كإنتاج الديمقراطية و الإيديولوجيا والدولة والاقتصاد والمفاهيم المتصلة بالسوق ، ومفاهيم الحرية والمساواة و العدل ، والأطر المنظمة للحياة من قوانين وتشريعات، ودساتير، والمفاهيم المتعلقة بالتسويات السياسية بين السلطة والمعارضة، هذه الأمور جميعها غير منغرسة، وبالتالي فهي غير متطورة في الذهنية السياسية للنظام التونسي، وبدرجة أقل عند باقي الأنظمة المغاربية. وهذا ما يجعل على وجه الدقة، عندما تحدث صراعات إجتماعية أو سياسية تلجأ السلطة إلى إستخدام العنف لقمعها.ويظل إعلان الإضراب عن الطعام أحد النتائج الدراماتيكية.
ومقارنة تونس مع جارتها الجزائر، فنادرا ما تسمع عن حصول إضراب عن الطعام إلا لدى بعض المناضلين المدافعين عن قضية الأمازيغ.و هذا لا يعني أن النظام الجزائري هو من طبيعة ديمقراطية، و إنما بكل بساطة يوجد في الجزائر فضاء واسع من حرية التعبير، كما أن الصحافة لا تعاني من القيود التي تعانيها في تونس.ف"الخطوط الحمراء" لا توجد في الجزائرفعليا، حيث بإمكان المرء أن يقول كل شيء، و يكتب كل شيء. إن النظام السياسي الجزائري قد أقام حواجز كفاية ، بما يجعله بمنأى من الإهتزاز.
إنه بحكم واقع التاريخ والقرب الجغرافي لايمكن لفرنسا أن تظل محايدة وغير مكترثة بالإضرابات عن الطعام التي تحصل في بلدان المغرب العربي ،خاصة تونس.لأنه في بعض الأحيان يكون المضرب عن الطعام يحمل الجنسية الفرنسية (حال علي المرابط)، وفي حالات أخرى ، ينتقل المضرب عن الطعام إلى باريس بوصفها المدينة التي تحتوي على صدى إعلامي كبير، لإعطاء بعد شعبي لمعركته من ناحية ، ومحاولة إستخدامها كرافعة سياسية، من أجل ثني السلطة القائمة التي يحاربها، من ناحية أخرى.
وقد يصادف ترافق زيارة مسؤول فرنسي كبير مع إضراب عن طعام. وفي مثل هذه الحالة، من العبث أن يتنصل المسؤول الفرنسي من إستجوابه من قبل الصحافة. ولكي يتفادى الإرتباك و الإحراج ، فإنه عادة ما يتمترس وراء التذكير بمبادىء حقوق الإنسان الكونية، وتوجيه نصيحة إلى المضرب عن الطعام ، من دون توجيه نقد للسلطة الحاكمة التي تنتهك حقوق الإنسان ، وتمارس التقييد للحريات.
وفي تونس حصل هذا السيناريو، عندماكان الرئيس الفرنسي جاك شيراك في زيارة لذلك البلد، قبل سنتين، و كانت المحامية راضية نصراوي مضربة عن الطعام. فما كان من الرئيس المعني أمام تهاطل أسئلة الصحافيين سوى تهميش الإضراب عن الطعام للناشطة الحقوقية، و إضفاء إكليل من الغار والمديح لنظام الرئيس زين العابدين بن علي في مجال حقوق الإنسان. وقد أثار هذا الموقف الفرنسي صدمة كبيرة في مختلف مكونات المجتمع المدني التونسي لجهة إضطلاع الرئيس شيراك القيام بدور الحامي والمدافع عن الإستبداد في تونس، وإختزاله المبسط لحقوق الإنسان في الأكل والشرب، دون الحرية السياسية وحقوق المواطنة، الأمر الذي قاد إلى موجة إستنكار واسعة ضده، وهو ماجعله يتراجع، لفرط ما هو حقيقة، أن صوت فرنسا غير مكترث في بلدان المغرب العربي.
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018