ارشيف من : 2005-2008
الأزمة الروسية –الأوكرانية:الحل يقوم على ضمان الاحترام المتبادل للمصالح
كتب طه عبد الواحد
أصبحت الأزمة الغازية مع روسيا الشغل الشاغل للقيادة الأوكرانية، والموضوع الرئيسي المهيمن على السياستين الداخلية والخارجية للقيادة (البرتقالية) في أوكرانيا. والجدير بالذكر أن الأزمة قد بدأت مع إعلان مدير شركة غاز بروم الروسية الحكومية عن قرار اتخذته الشركة ببيع الغاز لأوكرانيا وأذربيجان وملدافيا وجورجيا بأسعار التعامل مع السوق الأوروبية في هذا المجال, الأمر الذي يعني رفع الأسعار بنسبة تزيد عن 100% لهذه الجمهوريات.
روسيا ترى المخرج من هذه الأزمة بموافقة أوكرانيا على عدة نقاط: التعامل بسعر جديد أقل من الأوروبي مع أوكرانيا، أي يتوجب على أوكرانيا شراء الغاز الروسي بسعر جديد تم تحديده أولاً بقيمة 180دولار لكل ألف متر مكعب، وبعد ذلك ارتفع الرقم ليصل 230 دولار نتيجة تعنت الجانب الأوكراني في المراحل الأولى من المفاوضات بين الجانبين. أما روسيا فمن جانبها أعلنت عن استعدادها لدفع ما يترتب عليها من التزامات مقابل مرور أنابيب الغاز الروسية عبر الأراضي الأوكرانية إلى أوروبا بأسعار جديدة تتناسب مع المعايير الأوروبية والدولية. إضافة إلى ذلك فإن شركة غاز بروم تطالب أوكرانيا الالتزام باتفاقية موقعة مسبقاً تنص على حق الشركة في امتلاك 50% من خط الغاز الأوكراني الذي يتم نقل الغاز الروسي عبره إلى أوروبا، إلا أن أوكرانيا ترفض تنفيذ الطلبات والشروط الروسية، وتحديداً الأخير منها حيث تعتبره تهديداً لاستقلالها الطاقي ومدخل نحو تقوية النفوذ الاقتصادي الروسي في أوكرانيا والمنطقة عموماً.
في غضون ذلك سعى الجانبان الروسي والأوكراني وعلى أعلى المستويات، باتصال هاتفي بين الرئيسين بوتين ويوشينكو على التأكيد بأن الأزمة ليست سياسية، ووجها دعوة إلى عدم تسييس ملف الغاز الروسي. لكن معظم المتتبعين لتطور العلاقات بين الجارين يؤكدون أن الأزمة هي سياسية بامتياز تعكس حقيقة ما يدور من تنافس بين روسيا والولايات المتحدة من أجل السيطرة على أوكرانيا. ويرى هؤلاء أن مقدمة هذه الأزمة، أو بمعنى آخر: المقدمة السياسية لهذه الخطوة الاقتصادية الروسية ذات البعد الاستراتيجي،وجدت جذورها في تسلم (البرتقاليين) بدعم غربي واضح للسلطة في أوكرانيا ومسارعتهم إلى التأكيد على العمل من أجل الاندماج بالمؤسسات الغربية.
في هذا الإطار فإن روسيا ليست قلقلة حيال السعي الأوكراني نحو الاتحاد الأوروبي بقدر قلقها من التلازم بين هذه الخطوة وانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، الأمر الذي سيعني بالتأكيد نشر قوات أمريكية في أوكرانيا ذات الأهمية الاستراتيجية للأمن القومي الروسي، وللسياسة الخارجية الروسية في عهد بوتين التي أصبح واضحاً أنها قد حققت نجاحات معينة في مجال استعادة الحجم إقليمياً ودولياً، وهو ما تسعى واشنطن إلى الحد منه.
الدعوة لعدم تسييس ملف الأزمة الطاقية بين البلدين لم تتجاوز حدود الكلام، ففي أوكرانيا وجه الرئيس يوشينكو خطاباً متلفزاً إلى الشعب الأوكراني محاولاً تهدئة الوضع حين أكد أن الأزمة لن تؤثر على سعر الغاز بالنسبة للمواطن وبأن احتياجات الشعب مؤمنة خلال فصل الشتاء. من جانب آخر وفي إطار محاولة التأثير على المفاوض الروسي في هذا الملف قررت أوكرانيا استخدام أسطول البحر الأسود الروسي المتواجد في الجزء الأوكراني من هذا البحر والذي يشكل أهم قوة بحرية روسية قريبة من البحر الأبيض المتوسط ولها تاريخها العريق على مدار تاريخ الحروب التي خاضتها روسيا. حيث أعلن الرئيس يوشينكو أنه في إطار إعادة ترتيب العلاقات الاقتصادية بين البلدين فإنه مضطر لإعادة النظر بالنسبة للمبالغ التي تدفعها روسيا مقابل تواجد أسطولها في شبه جزيرة القرم على البحر الأسود. أما رئيس الحكومة إيخانوروف فقد كرر ما سبق وأن أعلن عنه الرئيس حين أشار إلى أن كل المسائل الخلافية سيتم حلها عبر المحكمة الدولية في ستوكهولم.
روسيا لم تبد أي ردة فعل بعد على هذه التصريحات الأوكرانية، إلا أن مصادر شركة غاز بروم أكدت أن مدة العقد مع أوكرانيا تصل حتى عام 2017، لكن في كل عام يتم توقيع عقد إضافي لتحديد السعر، أي أنه لا يوجد لدى أوكرانيا ما تذهب به إلى تلك المحكمة. أما بشأن أسطول البحر الأسود فيرى المراقبون أن الرد الروسي الذي لم يظهر بعد قد يكون قاسياً خصوصاً وأن بعد الجهات في أوكرانيا بدأت تلوح باحتمال فتح بعض القواعد السوفييتية المغلقة حالياً أمام سلاح الصواريخ الأمريكي والقوات الأمريكية عموماً. وتقع معظم القواعد التي تمت الإشارة إليها بالقرب من مواقع الأسطول الروسي في شبه جزيرة القرم.
هذه هي آخر المستجدات في ملف الأزمة الروسية- الأوكرانية بخصوص رفع روسيا لأسعار الغاز الذي تصدره إلى أوكرانيا، ولا يوجد ما يدفع إلى الاعتقاد بأن هذا الملف سيُغلق في المستقبل القريب، وقد تعمد روسيا إلى إبقائه معلقاً حتى موعد الانتخابات البرلمانية في أوكرانيا آذار 2006، حيث يرى البعض أن روسيا قد تستغل هذا الملف للتأثير على المعركة الانتخابية على أمل أن تفوز تلك القوى الأكثر قرباً من موسكو بأغلبية برلمانية تؤهلها لتشكيل حكومة جديدة ليس المطلوب منها أن تكون موالية لروسيا بالضرورة بل أن تبتعد عن تمثيل مصالح الغرب الأمريكي كحد أدنى وأن تعيد أوكرانيا إلى مكانتها الطبيعية التي تنتمي إليها جغرافياً وسياسياً واجتماعياً.
إن الانتخابات الرئاسية التي شهدتها كازخستان مؤخراً أكدت أن الديموقراطية والإصلاحات ليست رهناً بالتوجه الفرضي نحو الغرب ومعاداة روسيا في الوقت نفسه، بل هي مسألة داخلية يمكن تحقيقها مع الحفاظ على العلاقات التاريخية بين الجيران في إطار الاحترام المتبادل للمصالح. ويبدو أن هذا هو الحد الأدنى الذي تريده روسيا من أوكرانيا. وإلى حينه يبقى الخلاف بين أوكرانيا وروسيا بشأن الغاز من أكثر الملفات تعقيداً، وتهديد للاقتصاد الأوكراني لا يمكن تجاهله، والأغلب أنه لن يجد نهاية مرضية إلى في إطار الاحترام المتبادل للمصالح بين الجارين الروسي والأوكراني، مع التأكيد على أن نشر قوات غربية في أوكرانيا خطوة لا علاقة لها (بالاحترام المتبادل) وهي ضرب أوكرانيا لكل المصالح والهواجس الروسية بعرض الحائط، وهذا ينذر بأزمة قد تعصف بأوكرانيا لم يسبق أن شهدت مثلها في تاريخها الحديث!
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018