ارشيف من : 2005-2008

تشيلي :تحديات الاشتراكية باشليه

تشيلي :تحديات الاشتراكية باشليه

كتب توفيق المديني‏

في ظل مجتمع تشيلي محافظ ، هو الأكثر محافظة في أمريكا اللاتينية ، حيث تعتبر الكنيسة الكاثوليكية قوية جدا، وحيث الاجهاض حتى الطبي لا يزال يعدّ جريمة، وحيث الطلاق لم يشرع الا قبل سنتين، كان من المستحيلات قبل سنوات أن تصعد امرأة إلى قمة السلطة لتخلف الرئيس الاشتراكي ريكاردو لاغوس في مارس2006.ومع ذلك فازت مرشحة يسار الوسط ميشيل باشليه (54 سنة) في الانتخابات الرئاسية التي أجريت الاحد15 يناير الجاري في تشيلي، وباتت المرأة الاولىالتي تصل الى الرئاسة بالاقتراع العام المباشر في بلادها ، و القارة الجنوبية.‏

"أدعوكم لأن تكونوا شركاء في لحظة تاريخية جديدة بانتخاب أول امرأة لتولي الرئاسة. فلنصنع التاريخ". بهذه الدعوة، دشنت الاشتراكية ميشال باشليه شريط عصر جديد في تشيلي، إذ إن انتصارها يعزز اليسار اللاتيني المناهض للولايات المتحدة. وتفوقت "رئيسة المواطنين" على "برلوسكوني تشيلي"، الملياردير اليميني سباستيان بينييراـ الموالي لأمريكا ، والذي تدعمه الكنيسة الكاثوليكية واليمين المحافظ الذي وفر تغطية واسعة لحكم الديكتاتور الدموي السابق أغوستينو بينوشيه ـ بحصولها على 53,49 في المئة من الأصوات، في مقابل 46,5 لبينييرا الذي اعترف بهزيمته وهنأ باشليه، واصفا اياها بانها رمز " نضال ملايين النساء من اجل انتزاع المكانة التي يستحقنها"‏

ويتساءل المحللون في الغرب ، هل أن الرئيسة ميشال باشليه انتخبت بوصفها امرأة، أم بوصفها مناضلة اشتراكية؟‏

في الحقيقة هناك تقارب بين الإثنتين. لاشك أن انتصارها الباهر يعود إلى الأغلبية الاشتراكية الديمقراطية (يسار الوسط) التي تحكم البلاد منذ عودة الديمقراطية إلى تشيلي في عام 1990، و التي أصبحت تسيطر على مجلس الشيوخ لأول مرة، وحافظت على أغلبيتها في مجلس النواب، أولا . ولكونها امرأة، و أكثر من ذلك لشخصيتها الجذابة ثانيا. إنها امرأة شجاعة تمتلك قناعات راسخة، وتعطي الثقة للناس. وقد أثبتت قدراتها وصلابتها عبر مسيرة حياتها الحافلة، إذ ولدت ميشال باشليه في 29 سبتمبر 1951 في سنتياغو، وجابت في طفولتها كل ارجاء تشيلي، إذ كانت العائلة تتنقل تبعاً لانتقال مركز عمل الوالد الذي كان طياراً في الجيش.وعام 1970 بدأت دروساً في الطب وانتسبت الى الشبيبة الاشتراكية..وبعد الانقلاب العسكري الدموي في 11 سبتمبر 1973، على الحكومة الاشتراكية الديمقراطية المنتخبة بقيادة الزعيم سلفادور أليندي، واستيلاء الطغمة العسكرية بقيادة الجنرال بينوشيه على السلطة، الذي حكم البلاد بالحديد و النار،تحدت كل الأخطار بمساعدتها المناضلين الاشتراكيين الذين يعملون في السرية، و عائلات المساجين السياسيين.‏

إن ميشال باشليه هي ابنة ألبرتو باشليه، وهو ضابط برتبة جنرال في الطيران ، من أصل فرنسي ، و ماسوني ، وكان مقرباً جدا من الزعيم الاشتراكي الراحل سالفادور اليندي، وتوفي بعد ستة أشهر في السجن نتيجة التعذيب ا..وفي العاشر من كانون الثاني 1975 ، اعتقلتها اجهزة الاستخبارات مع والدتها واقتادتهما الى فيلا غريمالدي، احد مراكز التعذيب في تشيلي. ومع الافراج عنهما بعد 20 يوماً، سلكتا طريق المنفى قاصدتين أوستراليا ثم المانيا الشرقية حيث واصلت ميشيل تحصيلها الجامعي. وعام 1979، عادت ميشيل مع طفلها سيباستيان المولود عام 1978 الى تشيلي حيث حصلت عام 1982 على شهادتها في الجراحة، غير انها لم تتمكن من الحصول على وظيفة في القطاع العام "لاسباب سياسية".وقد افادت من منحة دراسية مكنتها من التخصص في طب الاطفال والصحة العامة ، وعام 1984 انجبت ابنتها فرانشيسكا.‏

وفي موازاة كل ذلك، عملت في منظمة غير حكومية تساعد أطفال ضحايا الديكتاتورية.وبعد الانتقال الديموقراطي في البلاد عام 1990، كثفت عملها طبيبة في قطاع الصحة العامة وعضواً في اللجنة الوطنية لمرض العوز المناعي المكتسب "الايدز" ومستشارة لمنظمة الصحة العالمية.وكانت باشليه ترى أن الحزب الاشتراكي الذي تنشط في صفوفه يهمل القطاع العسكري، فباشرت دروساً في الاستراتيجية العسكرية في سانتياغو وفي الدفاع القاري في واشنطن.وعندما وصل إلى السلطة الرئيس لاغوس في عام 2000، عهد اليها في وزارة الصحة وكلفها إجراء إصلاح واسع النطاق في هذا القطاع، كما كانت عام 2002 المرأة الاولى وزيرة للدفاع في أميركا اللاتينية ودعت في الذكرى الـ30 للانقلاب في تشيلي الى مصالحة بين المدنيين والعسكريين. ومع هذا الموقف تحديداً، اتسعت شعبيتها وحلقت.‏

إن فوزباشليه الانتخابي ، هو انتصار مثلث: انتصار لائتلاف يسار الوسط المتكون من الديمقراطيين المسيحيين، و الحزب الراديكالي، و الحزبين الاشتراكيين ،وانتصار للإشتراكيين، و انتصار شخصي لها. وهذا الفوز يظهر أيضا قوة اتحاد يسار الوسط الحاكم في تشيلي منذ نهاية الديكتاتورية عام 1989.‏

ماذا يمكن أن يظهر لنا وصول هذه الأم العزباء لثلاثة اولاد من والدين مختلفين انفصلت عن كليهما، و العلمانية ، إلى قمة السلطة في بلد كاثوليكي تقليدي تطغى عليه النزعة الذكورية، وتحتل فيه العائلة مركزية القيم، على نقيض جيرانه الأمريكيين اللاتينيين الذين يعيشون حياة عاطفية و سياسية متقلبة جدا ؟‏

إنه يظهر لنا الصعود القوي للنساء في الحياة السياسية في قارة أمريكا اللاتينية ، كما في أماكن أخرى،و في بلدان ليست بالضرورةمتقدمة.إن تشيلي بلد محافظجدا،بل متزمت في تشدده الديني.وكانت الكنيسة تبنت خطا سياسيا مغايرا في الثمانينيات من القرن الماضي ، عندما جسدت القطيعة مع معظم الديكتانوريات العسكرية التي حكمت أمريكا اللاتينية ،لكنها ظلت دائما في خط البابا يوحنا بولس الثاني. و مع ذلك تبنى قسم كبير منها إيديولوجية لاهوت التحرير .فتحول بذلك القساوسة إلى شيوعيين ثوريين مدافعين عن الفلاحين الفقراء،و انخرطوا في حروب العصابات ضد الأنظمة العسكرية والديكتاتوريات التي كانت تحظى بدعم واشنطن وتأييدها.و الحال هذه ،فإن انتخاب الرئيسة ميشال باشليه يعبر عن ظاهرة تغيير عميقة في العقليات:إنه يظهرلنا أيضا أنه بعد خمسة عشر سنة من الإنتقال إلى الديمقراطية ، أن تشيلي تحدثت بصورة عميقة.‏

إن التطورات التي أسفرت عنها العملية الانتخابية في أمريكا اللاتينية ، مسألة جديرة بالاهتمام،إذ إن اليسار هو الذي يحقق انتصارات في الانتخابات، و هذا بدون شك يعزز المحور المناهض للولايات المتحدة الأمريكية في القارةالجنوبية. وعلى الرغم من أن بلدان أمريكا اللاتينية اعتنقت نهج الليبرالية الاقتصادية في سياق العولمة الرأسمالية المتوحشة التي تقودها واشنطن، فإن شعوبها زادتها العولمة فقرا على فقر،وفاقمت عندها التفاوتات الاجتماعية الحادة، عوض ان تنتشلها من واقعها المتردي الذي أوقعته فيها الديكتاتوريات العسكرية بعد مرحلة الاستقلال.‏

وهنا يطرح المحللون ماهو دور هذه الرئيسة الاشتراكية المعتدلة في الخريطة السياسية للقارة الأمريكية اللاتينية ، التي أصبح يهيمن عليها اليسار أكثر فأكثر؟‏

إن ميشال باشليه ليست لها نفس الثقافة السياسية للرئيس الفنزويلي اليساري هوغو شافيزالمأخوذ بالزعيم الكوبي الشيوعي فيديل كاسترو، الذي ما انفك يناهض السياسة الأمريكية، و الذي التحق بالسوق الأمريكية اللاتينية المشتركة "الماركوسور" لإضفاء عليها "مزيدا من الاشتراكية". كما أن باشاليه تختلف عن الرئيس البوليفي الهندي الأصل إيفو موراليس ، الذي يريد تأميم قطاع الطاقة ،لاسيما الغاز، حيث تعتبر بوليفيا أكبر منتج له، وتمت خصخصته في عام 1996 ، و الذي سيتجه بحكمه نحو اليسار، إذ يجمعه بشافيز و كاسترو،ولولا في البرازيل ، العداء لأمريكا، و تحقيق مزيدا من العدالة الاجتماعية للطبقات الفقيرة و المحرومة.‏

إن الرئيسة الجديدة لديها تكوين سياسي قوي و ليست بحاجة إلى اللجوء للخيار الشعبوي . و هذا يعني أنها ستكون متأنية في إقامة علاقات جيدة مع موجة شافيز.فانتخابها بعد موراليس في بوليفيا، سيقوي التحول الى اليسار في اميركا اللاتينية . بيد أن ميشال باشليه ، الاشتراكية ، هي اقرب ايديولوجيا الى سيلفا منها الى موراليس او تشافيز. وقد اصطدمت افكارها الاشتراكية الليبرالية في بعض الأوقات مع أفكار الصفوة المحافظة في تشيلي، لكن قادة الأعمال يثقون في قدرتها على مواصلة السياسات الاقتصادية الحذرة للاغوس. ولن تتراجع عن اقتصاد السوق الذي تبنته تشيلي منذ عقود.فهي لاتريد أن ترعب رجال الأعمال الذين اسهموا في حملتها الانتخابية، و هي لا تريد أن تحيد عن خط الرئيس ريكاردو لاغوس، الذي أعطى اهمية كبيرة لليبرالية الاقتصادية. وهي تريد طمأنة المستثمرين الأجانب الذين يلعبون دوراً حاسماً في النمو الاقتصادي الذي جعل من هذا البلد الأكثر تقدما في أمريكا اللاتينية.‏

إن اليسار التشيلي يعرف جيدا في أي أوضاع مأساوية تعيش المجتمعات الأمريكية اللاتينية ، ويعتقد أنه يجب انتشال البلدان المجاورة نحو الديمقراطية ومساعدتها على إيجاد سياسات فعالة للخروج من أزماتها.فهذا اليسار ليس له كراهية أو خوف من "اليسار الاخر" المناهض للولايات المتحدة الذي تولى الحكم في بلدان لاتينية اخرى، مثل الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز، والبرازيلي لويس لولا دا سيلفا، والاورغواني تابار فاسكويز، والارجنتيني نيستور كريشنر، والبوليفي إيفو موراليس. وينص برنامج باشليه على مواصلة الانفتاح على الاستثمارات الاجنبية ،و الدفاع عن تعزيز التوافق الإقليمي حول الماركوسور، باعتبارها الأداة الجوهرية لتطوير السياسات الاجتماعية في أمريكا اللاتينية من أجل إنهاء معاناة الفقراء والمحرومين والاقليات ، مع البقاء في الوقت عينه في إطار الاقتصاد الليبرالي. وتلعب تشيلي دورا ديناميكيا ومؤثرا على صعيد القارة الجنوبية .‏

فبعد سقوط الديكتاتوريات العسكرية في عقد الثمانينيات من القرن الماضي ، وموجة الديمقراطية التي اجتاحت أمريكا اللاتينية في عقد التسعينيات ، ها هو اليسار الاشتراكي المناهض للسياسة الأمريكية يصبح معطا جديدا في القارة الجنوبية.‏

2006-10-30