ارشيف من : 2005-2008
دلالات الاتفاق النووي بين أمريكا و الهند
كتب توفيق المديني
في الوقت الذي تبحث فيه المجموعة الدولية السبل الكفيلة لمنع إيران من تخصيب اليورانيوم كخطوة استباقية للحيلولة دون امتلاكها السلاح النووي، وقع الرئيس جورج بوش في محور زيارته الأولى إلى نيودلهي، مع بداية شهر آذار/مارس، اتفاقا "تاريخيا" للتعاون النووي المدني مع الهند، وذلك على الرغم من أن البلد لن يفتح منشآته النووية العسكرية للتفتيش الدولي. ولا شك أن هذا الاتفاق سيدخل هذا البلد الآسيوي في مصاف نادي القوى العظمى النووية المعترف بها.
وإذا صادق الكونغرس الأمريكي على هذا الإتفاق، فإنه سيضع حدا لعزلة الهند النووية. وكان الرئيس بوش أبدى تفاؤله في قدرته على اقناع الكونغرس بإنهاء الحظر التكنولوجي الاميركي على الهند، منذ إجرائها تجارب نووية، وصولاً الى تطويرها سلاحاً ذرياً، الأمر الذي استغرق 30 عاماً، ورأى أن الاتفاق الجديد يسمح بتذليل عقدة استمرت عقوداً، "علماً ان الشراكة الممتازة مع الهند في موضوع حظر الانتشار النووي تكرست طيلة العقود الماضية".
وأوضح بوش أن "ما يقوله هذا الاتفاق هو أن الأشياء تتغير والأزمنة تتغير. أحاول أن أفكر بطريقة مختلفة، وأن لا أبقى عالقاً في الماضي". وقال "إن في مصلحتنا أن تحصل الهند على الطاقة النووية لتخفيف الضغط على احتياجاتها من الطاقة"، مضيفاً "كلما قل الطلب على الوقود العضوي، كلما كان ذلك أفضل للشعب الاميركي، هذا ما سأقوله للكونغرس".
في مقابل الفصل بين برامجها النووية المدنية والعسكرية، ستحصل الهند من الولايات المتحدة الأمريكية على نقل التكنولوجيا النووية، وإمدادات مستمرة من الوقود النووي لتلبية احتياجاتها المتزايدة من الكهرباء، شرط أن يوافق الكونغرس الامريكي على هذا الاتفاق. وكانت الهند محظورة عنهما بسبب عدم توقيعها على معاهدة حظر الانتشار النووي حتى الآن. وبموجب هذا الاتفاق وافقت الهند على وضع 14 من مفاعلاتها النووية من أصل 22 مفاعلا نوويا هندياً على أنها مفاعلات "مدنية"، تحت الإشراف الدولي. و كان الرئيس جاك شيراك الذي زار الهند قبل أيام من زيارة بوش قد اقترح على نيودلهي تسليمها محطات نووية من دون انتظار أن تخضع منشاءاتها النووية ـ ولوجزئيا ـ لمراقبة وكالة الطاقة النووية الدولية.
ويعتبر هذا الاتفاق تغييرا كبيرا في السياسة الأمريكية بشأن حظر الإنتشار النووي. فهناك قانون أمريكي يحظر تصدير التكنولوجيا التي يمكن أن تساعد البرنامج النووي لبلد غير موقع على معاهدة حظر الانتشار النووي. وكانت واشنطن فرضت عقوبات على الهند بعد أن قامت هذه الأخيرة بالتفجيرات النووية في عام 1998. علماً أن واشنطن قادت طوال 30 عاماً جهود عزل التكنولوجيا النووية الهندية وعدم الاعتراف بها "كونها انتهكت الأعراف الدولية عبر إجراء تجارب نووية وتطوير أسلحة".
وفي السابق، تراجعت واشنطن عن اتفاق تمنح بموجبه الوقود للمفاعل النووي الهندي تارابور(الذي سلمته الولايات المتحدة) بعد أول تفجير نووي هندي عام 1974.
ويعتبر هذا الاتفاق نصرا كبيرا للدبلوماسية الهندية لأنها أبقت برنامجها النووي العسكري خارج نطاق المراقبة الدولية.كما أن نيودلهي سعيدة لأنها نجحت في إقناع واشنطن بعدم إخضاع مولدها العملاق للأبحاث و كذلك مولدها للطاقة قيد البناء للتفتيش من قبل وكالة الطاقة النووية الدولية.
الهند القوة الاقتصادية الصاعدة
يجمع الخبراء في الاقتصاد على أن هناك قادما ً جديداً على مسرح الاقتصاد العالمي ألاوهو الهند ، البلد الذي يكتشف بابتهاج المطامع التي كانت عرضةً لها .ولقد أصبحت الهند مركز جاذبية بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى دقيق، فتعداد سكانها الذي يبلغ الآن 1،1 مليار نسمة، سيصل إلى 1،5 مليار نسمة في حدود عام 2035، لتصبح أول بلد في العالم من حيث عدد السكان.
ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي للهند 788 مليار دولار(662 مليار يورو في عام 2004)، منه 23% تم تحقيقه في الزراعة، و 26% في الصناعة، و51% في قطاع الخدمات. ويبلغ الناتج الداخلي الخام للفرد في الهند 608 دولار في عام 2004، أي أقل مرتين مما هو موجود في الصين . وتوجد في الهند طبقة وسطى يقارب تعدادها ما بين 250 إلى 300 مليون نسمة، متلهّفة لتدارك السنوات السود من الاقتصاد المركزي المغلق ـ وهي ما انفكت تتوسع لتحتل بذلك المرتبة الثانية في العالم بعد الطبقة الوسطى في الصين ـ، وبنية تحتية تحتاج تنميتها المرتقبة إلى عشرات المليارات من الدولارات من الاستثمارات.
وفي الوقت الذي يركزفيه الإعلام العالمي على النهضة الاقتصادية الصينية ، يستمرالاقتصاد الهند ي في تحقيق ثورته وصعوده نحو العالمية ، في كنف من السرية مقارنة مع المنافس الصيني. فقد سجل الإنتاج الصناعي الهندي ارتفاعا ً بنحو 6،9% سنويا حسب الإحصائيات الرسمية المنشورة في 12 يناير الجاري، واستمر معدل النمو في ملامسته 8% عام 2005. و في عام 2004بلغت صادرات الهند من النسيج (23،6%)، و المجوهرات (16،8%)، و المواد التجهيزية (15،7%). واستوردت الهند مواداً نفطية بنحو (27،4%)، ومواداً تجهيزية (11،7%) وأحجاراً كريمة(9،05%). وكان العجز التجاري للهند بنحو 26،5 مليار دولار لعام 2004.
خلال بضع سنوات ، تغيرت المدن الهندية بصورةٍ كبيرةٍ جداً. و في مجال الطيران المدني، ستشتري نيودلهي 600 طائرة خلال العشر سنوات المقبلة. و في سبيل مواجهة الزيادة في حركة الطيران المدني، أصبحت الهند مجبرةً على القيام بعملية تحديث لكل مطاراتها، إضافة إلى بناء مطارات جديدة.ولما أصبحت حاجاتها للطاقة ضخمةً من أجل المحافظة على معدل نمو مرتفع، اتفقت الهند مع جارتها الكبيرة الصين، لتفادي أي منافسة يمكن أن تلحق ضرراً بالبلدين.
وبعد أن كانت الشركات الهندية الكبرى مكتفية لمدة طويلة بالسوق الاستهلاكية المحلية التي تعد مليار نسمة، أصبحت الآن تبحث عن منافذ خارجية على الصعيد الدولي. وقد انفقت مبلغ 12 مليار دولار لشراء شركات أجنبية في عام 2005.وعلى الرغم من أن الهند تعتبر الرقم الأول في الخدمات المعلوماتية، إلا أنها ما انفكت أيضا ً تطور الصناعة المانيفاكتورية، لاسيما في صناعة السيارات، إذ إن كل شركات صناعة السيارات العالمية الكبرى نقلت خطوط إنتاجها الصناعية إلى الهند حاليا ً.
لا شك أن مثل هذا الازدهار الاقتصادي يغري أكثر فأكثر شركات العالم كله.فخلال أقل من ثلاثة اشهر، أعلن عمالقة الكومبيوتر العالميين عن إستثمارات في الهند بقيمة 5 مليارات دولار(4،2مليار يورو):1،7 مليار دولارلشركة مايكروسوفت التي تريد توظيف 3000 شخصاً إضافياً خلال الأربع سنوات المقبلة، 1,05 مليار دولار لشركة أنتل الأمريكية المتخصصة في الكومبيوترخلال الخمس سنوات المقبلة، مليار دولار لشركة سيسكو، الشركة العالمية الأولى في مجال التجهيزات لشبكة الأنترنت. وقال بيل غيتس رئيس شركة مايكروسوفت أمام الكونفدرالية الهندية للصناعة:"نحن تابعون للهند فيما يتعلق باليد العاملة،لهذا السبب نحن نعمل على توسيع عملياتنا.نحن نوظف أيضا بسرعة أكثر ما نستطيع، لأن هذا البلد يحتوي على موارد هائلة في مجال صناعة الكومبيوتر".
وتحتوي الهند على أكبر خزان عالمي من اليد العاملة الأنغلوفونية المتعلمة و الماهرة. فالمهندس الهندي المحلي يتقاضى راتبا ً بنحو 30%إلى 40% أقل من نظيره في الغرب. وحسب دراسة (الجمعية الوطنية للمعلوماتية و الشركات الخدماتية)، إن ساعة تطويرجهاز كومبيوتر في الهند تساوي ما بين 18 إلى 26 دولار ، مقابل 55 إلى 65 دولار في الولايات المتحدة الأمريكية و أوروبا. وهذا ما يفسرلنا أن ما بين 400 إلى 500 شركة مذكورة من قبل المجلة الأمريكية فورتون لها مراكز أبحاث في الهند، إذ يتم نقل خطوط الإنتاج إلى شركات هندية محلية.وقد ازدادت الإيرادات من هذا القطاع بنحو 34،5% في العام المالي 2005، و تقدر الصناعة إيرادات من الصادرات بنحو 22،5 مليار دولار في العام 2006.
وقد قدر التقرير الذي نشرته ناسكوم و ماكينسي في 12 كانون الاول/ديسمبر 2005، أن هذه الإيرادات سترتفع إلى 60 مليار دولار في عام 2010 بالسبة لصناعة المعلوماتية ، لكي تصبح القوة الرئيسة المحركة للاقتصاد الهندي، ممثلة بذلك 7% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 3% في الوقت الحاضر. وسيقود هذا النمو إلى خلق 2،3 مليون فرصة عمل مباشرة و6،5 مليون فرصة عمل غير مباشرة.ومع ذلك يقدّرالتقريربالضرورة ، برنامجا مكثفا من التعليم و التحديث في البنيات التحتية ، كي تستطيع الهند أن تجيب على الطلب. ويحدث اليوم النقص في المهندسين المتخصصين منافسة قوية بين شركات المعلوماتية و ارتفاعا ً في الأجوربنحو 25% على 30% سنويا، الأمر الذي يقود في المدى المنظور، إلى إلحاق ضررٍ بالهند.
وعلى الرغم من أهمية صناعة المعلوماتية، فإنها تظل عاجزة عن استيعاب 10 ملايين شابا ً يصلون إلى سوق العمل سنويا ً. وباستثنار الخدمات، لا يوجد خلق فرص عمل في القطاعات الأخرى.
إن النهضة الاقتصادية هذه التي تشهدها الهند لا يجوز أن تنسينا ، أن هذا البلد الآسيوى ياوي دائما أكبر نسبة من الفقراء في العالم، أي ما يعادل 300 مليون نسمة يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم. وحده النمو الاقتصادي الذي يتجاوز سقف 8% سنويا و المدعوم ببرنامج طويل الأمد، هو الذي سيتمكن تدريجا من تقليص مساحة الفقر في الهند.
حسب الخبراء، الهند دخلت بقوة إلى المسرح الاقتصادي العالمي، و يبدو أنها من الآن فصاعدا ً و قطعيا ً ، تدور في مدار تصاعدي كقوة اقتصادية عالمية.
محاصرة الصين
في مواجهة الصين القوة العظمة الآسيوية الأخرى، تبدو الهند في نظر الدول الغربية القوة الموازية لها التي لا يجوز تجاهلها. من هنا نفهم "الهدية " التي قدمها الرئيس بوش للهند. فبعد عقود من تجاهل الهند بسبب الدور الريادي الذي لعبته في حركة بلدان عدم الانحياز التي كانت قريبة جدا من الاتحاد السوفياتي سابقا، هاهي الولايات المتحدة الأمريكية تعيد اكتشافها من جديد في ضوء المتغيرات الجيوبوليتيكية التي شهدها العالم بعد نهاية الحرب الباردة وبروز الصين كقوة عظمى على المسرح العالمي.
وحدها الصين الآن، التي أصبحت القوة الاقتصادية الرابعة في العالم، تمتلك الوسائل الكافية لمنافسة الولايات المتحدة الأمريكية التي تخلت عن هديها إلى الديمقراطية. فمسألة تايوان، والميزانية العسكرية الضخمة للصين، وقدرة الصواريخ الصينية العابرة للقارات على تهديد نيويورك، أو المشاريع النووية لكوريا الشماليية، هذه المسائل مجتمعة تمنع من أن يكون قرار السلام في هذه المنطقة من العالم حكرا ً على الولايات المتحدة الأمريكية بمفردها.
وتظل الولايات المتحدة الأمريكية عرضة للإنتقاد بسبب سياسة الكيل بمكيالين : فالهند ستواصل برنامجها النووي العسكري من دون أن تتعرض لأية مساءلة أو تفتيش من قبل وكالة الطاقة الدولية، بينما إيران هي الآن خاضعة لتهديد العقوبات الدولية بسبب إصرارها على مواصلتها برنامجها النووي المدني.
إن الاختلاف في التعاطي مع الهند و إيران يظهر لنا على أية حال القناعات الراسخة منذ زمن بعيد لدى الاستراتيجيين الأمريكيين، من أن خطورة السلاح النووي ليست تقنية، وإنما سياسية، إذ إنها متعلقة بطبيعة الأنظمة السياسية التي تمتلكها.
خاص ـ الانتقاد/نت 06/03/2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018