ارشيف من : 2005-2008
معركة مخيم جنين: بطولات خالدة وجراح لا تندمل
جنين ـ علي سمودي
عادت اللاجئة الفلسطينية والأم الثكلى أم خالد الفايد لمنزلها الجديد الذي شيد على انقاض منزلها الذي هدمته البلدوزرات الاسرائيلية في مجزرة مخيم جنين ودفنت تحت أنقاضه فلذة كبدها المعوق جمال, إلا أن صدى الصرخات التي أطلقتها في تلك الايام من شهر نيسان/ أبريل لانقاذ ابنها لا زالت تتردد في ذاكرتها لتعيش في كل لحظة كما تقول معاني الحزن والحسرة والألم، وهي مشاعر لا تكاد تفارقها لحظة وهي التي لم ولن تنسى أولئك القتلة من جنود شارون الذين قتلوا ابنها برغم إعاقته.
جريمة لا تُغتفر
وبرغم مرور أربع سنوات على رحيل ابنها فإن أم خالد لم تفقد الامل وما زالت تصر على البحث عن جثمان جمال (30 عاماً) الذي عانى طوال سنوات عمره من الإعاقة التي جعلته عاجزاً عن الحركة، "لذلك نشأت بيني وبينه ـ تقول الأم ـ علاقة خاصة جعلته أعز وأحب أبنائي. وعندما بدأت قوات الاحتلال بمهاجمة المخيم في شهر نيسان وعجزت عن الوصول الى المقاومة التي استبسلت في التصدي لها وكبّدتها الخسائر، بدأت بهدم منازلنا تارة بقصف الطائرات وأخرى بالبلدوزرات الضخمة التي قامت بهدم المخيم.. وعندما وصلت لمنزلنا وقفت أمام البلدوزر وأنا أصرخ وأحمل راية بيضاء وطلبت من الجنود إعطائي مهلة لإخراج ابني جمال وصرخت في وجوههم وتوسلت إليهم صارخة أن ابني معاق فاتركونا نخرجه، ولكن دون جدوى.. شهر الجنود سلاحهم في وجوهنا وأرغمونا على مغادرة المنطقة والألم يقتلني ويعصر أنفاسي، فأي ظلم هذا الذي يفرضه الاحتلال علينا، يطردنا من منازلنا ويقوم بهدمها.
اختفاء آثار جمال
باءت بالفشل كل محاولات أم خالد لإنقاذ ابنها، وطردتها قوات الاحتلال مع عشرات العائلات خارج المخيم.
"وبعد المجزرة ـ تضيف ـ عدنا للمخيم لنشاهد آثار الدمار الكبير، ولكن الصدمة الكبرى أننا لم نعثر على ابني جمال، اختفى أي أثر له برغم اننا وجدنا كرسيه المتحرك وأغراضه، وبعد إزالة الأنقاض ومرور أربع سنوات لم نعثر على أي أثر أو أشلاء، لذلك فإننا في هذه الايام نتذكر تلك اللحظات القاسية والصعبة التي تقتحم حياتنا للأبد، فلن أشعر بأي معنى للحياة ما دمت عاجزة عن معرفة مصير ابني أو العثور على أشلائه، برغم انه أُعلن شهيدا، ولن يهدأ لي بال إلا إذا عثرنا عليه ودفناه مع باقي الشهداء".
جراح لا تندمل
وتأتي ذكرى مجزرة نيسان لتفتح جراح أهالي المخيم، فالمواطنة عائشة البدوي لا زالت تبكي ليل نهار حزناً وألماً على مصير ابنها محمد البدوي الذي لم يُعثر على أي اثر له بعد المجزرة، خاصة في ظل تناقض الروايات حول مصيره.
روايات متناقضة
وتقول عائشة: "عندما اشتد القصف الاسرائيلي للمخيم وتساقطت الصواريخ في المنازل والأحياء خرج محمد ليطمئن الى الجيران والأصدقاء في اليوم الرابع من المعركة، لكنه لم يعد، وعلمنا انه أصيب بشظايا صاروخ وتلقى العلاج لدى طبيب محلي، لأن قوات الاحتلال حاصرت المخيم ومنعت سيارات وطواقم الإسعاف من دخول المخيم وإسعاف المصابين أو نقلهم للمستشفيات، وذلك أدى لاستشهاد عدد كبير من المواطنين بسبب عدم توافر الأدوية برغم أن المستشفى يقع بمحاذاة المخيم، ولكن بوابته أُغلقت بالدبابات".
وتضيف: "الشهود أكدوا لنا أن إصابة محمد لم تكن خطيرة، ولكن بسبب كثافة القصف لم يتمكن من العودة لمنزلنا وجرى نقله لمنزل مجاور في منطقة الساحة.. وعندما بدأت قوات الاحتلال بالزحف على المخيم وهدم المنازل لمحاصرة المقاومة لم يتمكن محمد من التحرك وطلب من المقاتلين النجاة وتركه، لأنه عندما يصل اليه جنود الاحتلال سيقومون باعتقاله لأنه ليس مطلوباً".
"انقطعت أخبار محمد ـ تقول الوالدة ـ وعندما عدنا للمنزل الذي احتمى به وجدناه مدمراً، ولكن أزيلت الأنقاض من كل أرجاء المخيم ولم نعثر عليه. ومما زاد من قلقي وحيرتي أن بعض الأهالي أكدوا أنهم شاهدوا صورته على التلفزيون الاسرائيلي والجنود يحملونه على حمالة، كما ان قوات الاحتلال قالت بعد تدخل عدة مؤسسات انسانية انه موجود في مستشفى العفولة الإسرائيلي، ولكن لم نكد نطمئن حتى عادت قوات الاحتلال لتنكر وجوده في قوائم المعتقلين والمصابين, كما لم نعثر عليه في قوافل الشهداء. وعلى مدار السنوات الاربع الماضية لم يغمض لي جفن والقلق يساورني كل لحظة وسط كوابيس الخوف والحيرة. واليوم أتذكر محمد فيزداد حزني وألمي.. أريد أن أعرف مصير محمد ولن أشعر بأي راحة أو استقرار حتى تنجلي الحقيقة التي لا يعلمها أحد سوى المحتل الذي لم يترك وسيلة الا واستخدمها للانتقام منا ومعاقبتنا بسبب بطولات أهالي مخيم جنين".
عاصمة الاستشهاديين
وبمقدار الحزن والألم الذي خلفته آثار المجزرة لدى اهالي المخيم حيث هدمت قوات الاحتلال منازلهم وشردتهم للمرة الثانية على التوالي، فهم يعتبرون نيسان رمزا للبطولة والتحدي والصمود الذي جسدوه في معركة مخيم جنين, تلك المعركة التي قتل فيها 32 جندياً إسرائيلياً باعتراف الاحتلال الذي جوبه بمقاومة شرسة شكلت نقطة تحول في مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.. فقد شنت قوات الاحتلال هجومها الواسع على مخيم جنين في الثالث من نيسان/ أبريل للإجهاز على المقاومة العنيفة التي انطلقت من المخيم الذي وصفه شارون بـ"عش الدبابير" و"عاصمة الانتحاريين"، بينما يتفاخر أهالي المخيم بأنه عاصمة الاستشهاديين التي خرّجت عدداً كبيراً من الاستشهاديين الذين نفذوا عدداً كبيراً من العمليات في العمق الإسرائيلي.
تقول والدة الشهيد محمود طوالبة قائد سرايا القدس: "يومياً نتذكر تفاصيل المعركة المباركة التي خاضها أبطال المقاومة الذين عاهدوا الله على مقاومة المحتل، وبرغم ما حشدته قوات الاحتلال من تعزيزات كان المخيم لأكثر من عشرة أيام مسرحاً لمعارك عنيفة قاتل فيها النساء والشيوخ والأطفال مع أبطال المقاومة.. وتضيف: في معركة الشرف أكد المخيم أن المقاومة قادرة على الإبداع وصنع المعجزات، لذلك كانت المقاومة في كل ركن وزاوية، وكلما اشتد القصف اشتدت المقاومة، وكلما سقط شهيد كان المقامون يزدادون قوة وإصراراً حتى كتب الله لهم الشهادة.. ونحن فخورون بأبطالنا وبشهدائنا الذين خذلهم العالم، لكنهم لم يخذلوا شعبهم، فمحمود تمنى الشهادة وقاتل حتى منحه الله إياها، ونعاهده في ذكراه أن نتمسك بعهده وأن نحمل رايته حتى ندحر المحتل".
الهجوم الواسع
وكانت قوات الاحتلال أخضعت المخيم مع مدينة جنين منذ اللحظات الأولى للهجوم لحظر تجوال وقصفت محوّلات الكهرباء ودمرت شبكات الاتصال والمياه وعزلت المخيم عن العالم وحظرت المؤسسات الإنسانية والطواقم الطبية من دخوله.
وتقول والدة الشهيد زياد العامر قائد كتائب شهداء الأقصى: "منذ اللحظات الأولى أدركنا انه يعد العدّة لمجزرة رهيبة للانتقام من المقاومة وأهالي المخيم الذين رفضوا الخضوع والاستسلام وخرجوا لمواجهة الحشود والترسانة العسكرية، واستبسل الجميع في المقاومة بالأسلحة والعبوات المصنّعة محلياً.. كانت المعارك لا تتوقف ليل نهار والمقاومة تطارد جنود الاحتلال من موقع لآخر لتوقع في صفوفهم الخسائر بين قتلى وجرحى، لذلك صبّ الجنود غضبهم على المخيم وتتالى سقوط الشهداء الذين اتحدوا جميعا تحت راية المقاومة، وأثبتوا للعالم أن إرادة الفلسطيني أقوى من الموت".
وتضيف: "احتلوا منازلنا ودمروها وقتلوا أبناءنا وشردونا وقصفونا ليل نهار، ولكن لم تضعف عزيمتنا. وبعد أربع سنوات لا زال المخيم معقلاً للمقاومة والمعارك التي لن تتوقف ما دام هناك احتلال. ومن قلب المخيم نقول للعالم إن طريقنا للنصر هو الدرب الذي خطّه زياد وطوالبة وغيرهما بدمائهم، والضربة التي لا تميتنا تزيدنا قوة، وجيل النصر قادم ليحقق الحلم الذي لن نتنازل عنه مهما كان الثمن".
صور البطولة
وبفخر واعتزاز قالت والدة الشهيد محمود أبو حلوة قائد كتائب الشهيد عز الدين القسام: "ما زال المخيم برغم الجراح والآلام صامداً يرفع راية محمود وكل الشهداء الذين تحدّوا جنود شارون وطائراته ودباباته، ما زلنا نعيش صدى تلك المعارك التي هُزم فيها جنود شارون عدة مرات وأجبروا على استبدال قواتهم المرّة تلو الأخرى أمام عنفوان المقاومة التي خاضت أعظم ملحمة في تاريخ شعبنا.. فقد صمد أبطالنا تحت القصف ونصبوا الكمائن لجنود الاحتلال حتى أصبح كل حجر وزاوية في المخيم لغماً متفجراً تحت أقدام المحتل الغاصب الذي هزّته البطولة، فأقدم على ارتكاب المجزرة.
رحلة تشرد
وعلى مدار أسبوعين ـ تروي هند عويس ـ احتجزت قوات الاحتلال مئات العائلات وسط ظروف غير إنسانية، و"قطعت عنا الماء والكهرباء، وعندما نفد الطعام وحليب الأطفال رفضوا السماح بإدخاله لنا! والأشد مرارة ان الجنود قاموا بتصفية عدد من الجرحى بعضهم نزف حتى الموت لعدم توافر العلاج.. أما المعتقل جمال الصباغ فقد داسته الدبابة تحت جنازيها واستُشهد، بينما قصفت الطائرات المعاقة يسرى أبو خرج داخل منزلها وتعفنت جثتها".
ويروي عطا أبو أرميلة أن قوات الاحتلال منعت سيارات الاسعاف من نقل جثامين الشهداء، ما أدى الى تعفنها، ومنها جثمان شقيقه الذي استشهد.. وعاشت عائلته مع جثته أسبوعين حياة صعبة وقاسية.
ويتذكر المواطن سعيد حمدان ان قوات الاحتلال جمعت الرجال والشبان واعتقلتهم جميعا وأرغمتهم على خلع ملابسهم أمام النساء والأطفال واقتادتهم عراة الى مراكز الاعتقال.
أما الصورة التي لن تنساها ذاكرة أهالي المخيم فترويها أُم مصعب (زوجها الشيخ إبراهيم جبر من قادة حماس اعتقل في المعركة وابنها مصعب استشهد خلال دفاعه عن المخيم)، عندما اعتقلت قوات الاحتلال جميع الرجال ثم طردت النساء والأهالي من المخيم.
وتضيف: "في نيسان عشنا رحلة التشرد الثانية بعد النكبة، شردنا الاحتلال من منازلنا بعد هدمها أكثر من شهر".
وبحسب الإحصاءات فإن قوات الاحتلال دمرت 455 منزلا بشكل كامل و800 بشكل جزئي، بينما اعتقلت المئات، وكانت حصيلة الشهداء 63 وأكثر من 20 جريحا.
وبرغم ذلك فإن محمود السعدي من قادة الجهاد الاسلامي الذي اعتقل في المعركة وخرج من السجن وأصبح مطارداً مجددا من قبل قوات الاحتلال يقول: "في ذكرى المعركة نتذكر الشهداء وبطولات شعبنا لنزداد قوة وإيمانا بأن المقاومة هي خيارنا مع الوحدة الوطنية لانتزاع حقوقنا وتحقيق الأهداف والثوابت التي لا تنازل عنها، فمن وحي معارك البطولة نستمد العزيمة لنمضي بقوة على درب الجهاد، رافضين خيارات الاستسلام والتنازل, فمعركتنا طويلة ولن نخون دماء شهداء المعركة".
أما زكريا الزبيدي قائد كتائب الأقصى الذي نجا من الموت بأعجوبة من المجزرة التي استشهدت فيها والدته وشقيقه طه من قادة سرايا القدس واعتقل شقيقه يحيى من قادة السرايا فيقول: "معركة مخيم جنين كانت بروفة لمعارك الانتصار الكبرى على المحتل الذي دمر المخيم واغتال قادتنا واعتقل مناضلينا، ولكنه لم ولن ينال من إرادتنا وعزيمتنا، ومهما استخدم المحتل من أساليب فإننا قادرون على مواصلة المعركة، ونؤكد ان كتائب الأقصى عازمة العقد على مواصلة مسيرة نيسان بشموخ وإباء وتحدٍ.. لن نرفع الراية البيضاء ولن نؤمن للمحتل ولن تكون هناك حلول أو تهدئة أو مفاوضات فقد، جربنا كل الطرائق وثبت لنا بشكل قطعي أن وحدتنا سر قوتنا، وأن مقاومتنا طريق النصر، وهذا عهدنا لشعبنا أن نبقى في خندق المقاومة حتى دحر المحتل الغاصب".
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018