ارشيف من : 2005-2008

فرنسا وتشاد وصراع النفوذ

فرنسا وتشاد وصراع النفوذ

كتب توفيق المديني‏

تعد تشاد المستعمرة الفرنسية السابقة حتى عام 1960، واحدة من أكبر دول إفريقيا مساحة وأغناها تنوعا عرقيا و لغويا. إذ تزيد مساحتها عن مليون و 280 ألف كلم مربع ، جزء كبير منها يشكل امتدادا للصحراء الكبرى. و تتقاسم تشاد حدودها مع كل من السودان (الشرق) وجمهورية إفريقيا الوسطى (الجنوب) والكاميرون ونيجيريا والنيجر (الغرب) وليبيا(الشمال ). ويبلغ تعداد سكانها حوالي 10 ملايين نسمة، يشكل المسلمون 52% منهم.و يتركز المسلمون في الشمال و الشرق، مقابل 30% من المسيحيين معظمهم في الجنوب، أما النسبة الباقية فمن الوثنيين و المعتقدات القبلية.و على الصعيد العرقي و اللغوي يشكل العرب و الشعوب الصحراويبة- السودانية معظم السكان المسلمين.‏

وتعتبر العلاقات السودانية - التشادية مترابطة ومتداخلة، وأن التداخل القبلي بين البلدين يشكل أحد العوامل التي لها تأثيرات على العلاقات وأنظمة الحكم. وتتأثر حكومة تشاد دائما بموقف نظيرتها في السودان لأسباب جغرافية واستراتيجية.‏

في الفترة الأخيرة، وتحديدا يوم الخميس 13 نيسان/أبريل الجاري اندلعت مواجهة عسكرية عنيفة بين المتمردين ونظام الرئيس ادريس ديبي في قلب العاصمة نجامينا ، إذ استطاع متمردو "الجبهة الموحدة للتغيير" قطع ألف كيلومتر في ثلاثة أيام على متن شاحنات بيك آب انطلقت من دارفور على الحدود السودانية – التشادية، لشن هجوم عسكري واسع النطاق في سبيل إسقاط نظام إدريس ديبي.‏

وينقسم المتمردون التشاديون المناهضون للرئيس التشادي إدريس ديبي الذين زحفوا على العاصمة نجامينا، إلى حركات صغيرة عدة يصعب تقويم عديدها. "الجبهة الموحدة للتغيير" هي ائتلاف تضم أكثر من عشرين حزباً، تأسست في كانون الأول /ديسمبر العام الماضي في شرق تشاد، ويتحدث باسمها حميد دهالون، ويقودها الملازم داوود علي قائد كتيبة مدرعات أدري ومحمد نور رئيس حركة "التجمع من أجل الديموقراطية والحرية" الذي تتهم نجامينا السودان بدعمه.‏

و يجمع المحللون الغربيون أن قسما أساسيا من سكان نجامينا رحب باستيلاء المتمردين في الساعات الأولى على العاصمة التشادية ، على أمل التخلص من نظام إدريس ديبي المتسبب الرئيس في إفقار السكان، والمتهم بالفساد. بيد أن الجنود الفرنسيين من عملية "إيبرفيير"المتمركزين في تشاد (1350 جنديا، و6 طائرات ميراج ، و3 هيليكوبترات ) هم الذين أنقذوا نظام ديبي من السقوط، و حالوا دون استيلاء المتمردين على السلطة في نجامينا.‏

من الناحية الرسمية ، مهمة الجنود الفرنسيين تتمحور "في تعزيز قدرات" الجيش التشادي، و"ضمان السيادة" للتشاد.وتنفي باريس تورط جنودها في القتال إلى جانب القوات الحكومية.لكن واقع الحال يقول عكس ذلك تماما، فالقوات الفرنسية لعبت دورا أساسا في إعلام الجيش التشادي بتقدم المتمردين ساعة بساعة ، بوساطة استطلاع طائرات الميراج الفرنسية التي كانت تحلق في المنطقة، و أطلقت نيرانها على قوات المتمردين الذين زعموا أنها شنت غارات عليهم. و هو أمر نفته باريس، إذ أكد الناطق باسم الخارجية الفرنسية الذي سئل مرات عديدة عن النيران التحذيرية التي أطلقتها طائرة ميراج شرق تشاد، أن الميراج "لم تطلق على المتمردين " وأن إطلاق النار"كان رسالة إلى المتمردين" وهي رسالة "نفسية أو سياسية تعكس اهتمامنا بالوضع و حرصنا في مهمة قواتنا بحماية رعايانا".‏

الرسالة واضحة. والالتزام الفرنسي أيضا.فرنسا تجد نفسها في وضع محفوف بالمخاطر. من دون شك إنها لا تقول ماذا تفعل القوات الفرنسية في تشاد: هل هي لحماية الرعايا الفرنسيين البالغ عددهم 2000 شخصا والذين يعيشون في البلاد؟ أو أنها لحماية رئيس منتخب ومعترف به دوليا؟ أوللإبقاء على قاعدة استراتيجية في قلب إفريقيا؟ أو لمحاصرة تأثير الهيمنة الأمريكية في المنطقة؟ أو لأحتواء المخططات السودانية و الليبية؟‏

لفترة طويلة كان الحضور العسكري الفرنسي في تشاد مرتبطا بطرابلس. بيد أنه منذ أعادت ليبيا شريط أوزو إلى تشاد في عام 1994، و تخلى العقيد القذافي عن أسلحة الدمار الشامل في عام 2005، لم يعد مبررا للسلطات الفرنسية أن تحافظ على قوات "إيبرفيير" في تشاد. لكن باريس ترد على ذلك بقولها أن السودان لايزال يعيش في أجواء حرب أهلية يمكن أن تؤذي بشظاياها جيرانها ، إذا و الحال هذه يشكل التواجد العسكري الفرنسي قوة ردع واستقرارفي المنطقة.‏

خلال مرتين ، من عام 1980 إلى 1984، و في عام 1985-1986، قررت باريس سحب قواتها، لكن في كل مرة تعيد إرسال قواتها العسكرية إلى نجامينا. ومنذ أن استقلت تشاد في 11 آب/أغسطس 1960، أقام كل الرؤساء التشاديين علاقات وثيقة مع باريس. من أول رئيس لتشاد فرانسوا تومبالباي (مسيحي من جنوب البلاد) المولود عام 1918، مرورا بالرئيس نويل أودينغار الذي قاد انقلاب عسكري ضد تومبالباي في 13 أيار/مايو1975، و الذي سلم السلطة بسرعة للجنرال فيليكس مالوم الذي حكم البلاد بين 15 ايار/مايو 1975 و لغاية 29 نيسان/أبريل 1979حيث أخفق في إيقاف الحرب الأهلية، فتولي غوكوني عويدي رئاسة الدولة بعده. لكن في 7 حزيران/يونيو من عام 1982 نجح حسين حبري في احتلال العاصمة نجامينا وإطاحة حكم عويدي، وصولا إلى تولي إدريس ديبي رئاسة الدولة بعد الاطاحة بحكم حبري في مطلع كانون الأول/ديسمبر عام 1990.‏

إن القوات الفرنسية موجودة في تشاد بطلب من الرئيس ديبي، ولن تنسحب إلا بناء على طلب منه.و هو الأمر عينه لساحل العاج ، حيث تتواجد قوة فرنسية تعدادها 4000 عسكريا، إذإن رحيلها مرتبط بموافقة الرئيس لورانت غباغبو. علما أن الطبيعة القانونية لوجود القوتين العسكريتين في تشاد وساحل العاج ليست متماثلة. ففي الحالة الأولى يرتبط تواجد القوات الفرنسية في تشاد بمجرد اتفاق تعاون عسكري موقع بين البلدين في عام 1976، بينما في الحالة الثانية ، هناك معاهدة دفاع مشترك تربط فرنسا بساحل العاج .‏

تعتبر تشاد "آخر بلد فرنكوفوني" في شرق إفريقيا، إذ تملك باريس في نجامينا "قاعدة استراتيجية" تسمح لها بإرسال طائراتها في مهمات عسكرية أو إنسانية في المنطقة. ولا تمتلك فرنسا أي قاعدة عسكرية جوية ثابتة سوى في جيبوتي، حيث تتمركزقوة عسكرية مؤلفة من 3000 رجلا ، و10 طائرات مقاتلة، و 9 طائرات عامودية. ولأسباب استراتيجية (القرب من الجزيرة العربية و مصادر النفط) تمثل دجيبوتي أهم قاعدة استراتيجية في القرن الإفريقي، تضاف إلى قاعدتي ليبريفيل (الغابون)، ودكار( السنغال)، اللتين تمثلان أساس التواجد العسكري الفرنسي في القارة الإفريقية.‏

أخيرا،إن فرنسا تساند رئيس دولة قام بتعديل الدستور بهدف البقاء في السلطة. فإذا كانت فرنسا تساند الديمقراطية، فلماذ لم تشجع قوى وأحزاب المجتمع المدني التي تطالب بفتح حوار سياسي بين السلطة والمعارضة منذ عدة أشهر؟ ويبدو أنه قبل أسبوعين من إجراء الاستحقاق الانتخابي المقاطع من المعارضة، والمقاتل من المتمردين، أن المأزق فاضح في تشاد.والواقع أن المنطق الكولونيالي لفرنسا يستمر في التحكم في السياسة الخارجية الفرنسية، على نقيض الزعم الرسمي أنه تم التخلي عنه.فالموقف الفرنسي في نجامينا يتناقض جذريا مع الدبلوماسية الفرنسية، التي تنص على عهد بصورة تدريجية إلى الإتحاد الأوروبي و الاتحاد الإفريقي مهمات حفظ الأمن في إفريقيا.‏

2006-10-30