ارشيف من : 2005-2008

عشية قمة الثماني:موسكو تنتقل من الدفاع إلى الهجوم الاستراتيجي 3/7/2006

عشية قمة الثماني:موسكو تنتقل من الدفاع إلى الهجوم الاستراتيجي 3/7/2006

كتب طه عبد الواحد(*)‏

ما زال التنافس الأمريكي-الروسي من أهم المواضيع التي تشغل المراقبين والمحللين، نظراً لتسارع وتيرته وانفتاحه على أبواب أوسع، يقول البعض إنها ستؤدي إلى مواجهة جديدة بين دولتين عظميتين، صيغتها لم تتضح بعد لكن الأغلب أنها قد تأخذ شكل شبيه بما كانت عليه الحال إبان حقبة الحرب الباردة، مع بعض التغييرات في مواقع القوى والتحالفات، إذ يتوقع أن تنقسم أوربا هذه المرة بين غربية محايدة وأكثر ميولاً إلى دعم موسكو، وأوربا شرقية تدعم واشنطن دعماً مطلقاً. وبينما يبقى هذه كله مجرد توقعات مبنية على دراسات موضوعية للمستجدات الإقليمية والدولية، تلوح في الأفق معالم انتقال موسكو من سياسة الدفاع عن مصالحها إلى سياسة اختراق الاستراتيجيات الأمريكية والهجوم السياسي الذي قد يضع الولايات المتحدة في موقف يزيد من تعقيدات علاقاتها مع الحلفاء الأوربيين، ومع المجتمع الدولي بشكل عام.‏

لقد شكل النفط منذ اكتشافه محور تقوم عليه صناعة السياسات العليا للدول الكبرى والنامية. والسيطرة على مصادر الطاقة النفطية وطرق نقلها إلى الأسواق الخارجية، عنصر له دوره في تحديد حجم تأثير ونفوذ هذه الدولة أو تلك إقليمياً ودولياً. في هذا الإطار تسعى الولايات المتحدة على الدوام إلى عدم تفويت الفرصة لفرض سيطرتها على مصادر الطاقة في العالم. وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي توجهت أنظار البيت الأبيض (الذي هو أسود أساساً لما يوليه للنفط من اهتمام) نحو منطقتي القفقاس وآسيا الوسطى الغنيتين بالثروة النفطية. في هذه الحلقة التي أُفرغت من النفوذ الدولي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي دار وما زال يدور تنافس شديد بين موسكو وواشنطن، بدا واضحاً أن روسيا قد حققت فيه تقدماً كبيراً، بينما لم تتمكن الولايات المتحدة عملياً إلى من تحقيق خطوة واحدة تضمن لها جزء من النفوذ في منطقة القفقاس، عندما تمكنت بعد سنوات طوال من تشييد خط نفط (باكو-تبليسي-جيهان) الذي يتم نقل النفط عبره من أذربيجان (بحر قزوين) إلى جورجيا فتركيا ومنها عبر البحر الأبيض المتوسط، إلى الأسواق العالمية.‏

ويرى الأغلبية من المهتمين بشؤون المنطقة أن خط نفط (باكو-تبليسي-جيهان) هو خط يُراد من تشييده التخفيف من سيطرة روسيا على مصادر الطاقة عموماً وطرق نقلها إلى الأسواق الخارجية، لكن تجدر الإشارة إلى أن خط النفط المذكور الذي يُقال أن الرئيس كلينتون كان من اقترحه أولاً، لن يؤثر على النفوذ الروسي إلى حد بعيد لأن روسيا ما زالت تسيطر على الجزء الأكبر من شبكات نقل النفط والغاز من منطقة قزوين إلى أوربا. إضافة إلى أن إيران الدولة الحليفة لروسيا ستشكل معها شبكة أوسع لنقل الطاقة لن تترك مجالاً لنفوذ أي شبكة أخرى في المنطقة. وعلى الرغم من ذلك فإن روسيا تسعى على ما يبدو إلى فرض نفوذ ولو جزئي على خط النفط الجورجي-الأذربيجاني-التركي. إذ أعلن الرئيس الكازاخي نور سلطان نزاربايف عن رغبته باستخدام الخط المذكور لنقل جزء من النفط الكازاخي إلى أوربا، وكان أكثر من محلل قد اعتبر في الخطوة الكازاخية هذه ابتعاد عن النفوذ الروسي وخروجاً كازاخياً عن أسس العلاقات الاستراتيجية مع الشريك الروسي في منظمات (شنغهاي، أو دي كي بي، يفرو آزيس) الإقليمية.‏

لكن نظرة أكثر دقة إلى قرار كازخستان، وطبيعة علاقاتها مع روسيا والصين، والدور الذي يقوم به الرئيس نزاربايف في بناء تحالفات إقليمية مستقلة عن النفوذ الخارجي، تدفع إلى القول بأن نقل النفط من كازخستان إلى البحر الأبيض المتوسط عبر خط نفط واقع تحت سيطرة الشركات الأمريكية هو على الأغلب خطوة استراتيجية تهدف إلى التخفيف من نفوذ هذه الشركات وإبعادها عن مصادر النفط في القفقاس وآسيا الوسطى، لأن نقل النفط الكازاخي سيعطي لكازخستان حليفة روسيا شيء من السيطرة على عمل هذا الخط، ما يعني دخول حليف لروسيا كشريك في مشروع اقتصادي لا يمكن تجاهل دوره المستقبلي في تقاسم المصالح ومناطق النفوذ بين الدول الكبرى.‏

وما يؤكد صحة هذا الاعتقاد هو إعلان شركة (لوك أويل) الروسية العملاقة العاملة في مجال التنقيب عن النفط واستخراجه عن رغبتها هي أيضاً في أن يتم نقل جزء من نفطها إلى تركيا عبر أذربيجان وجورجيا. وفي حال تحققت رغبة الشركة الروسية ، فإن كميات النفط الكازاخي والروسي التي ستُنقل عبر خط باكو-تبليسي-جيهان، ستعطي لهاتين الدولتين الحق في التحكم إلى حد ما بصادرات النفط عبره، وهذا بحد ذاته نوع من النفوذ الخفي والتحكم عن بعد بخط نفط أرادت منه واشنطن أن يكون بوابتها الرئيسية نحو منطقة حوض قزوين، ويبدو أن روسيا التي مازالت تسيطر على تصدير ما يقارب 90% من نفط قزوين إلى الأسواق الخارجية، قررت أن تدخل عبر أطراف ثالثة في هذا المشروع الأمريكي، وهو ما يمكن وصفه باختراق روسي للاستراتيجيات الأمريكية في قزوين وآسيا الوسطى والقفقاس.‏

الاختراق الروسي للاستراتيجيات الأمريكية كان الصفة المميزة للمحادثات بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره التركي أحمد سيزر في موسكو بتاريخ 30/6/2006، فكلاهما أشار إلى أهمية التعاون في مجال نقل الطاقة من مصادرها إلى الأسواق الخارجية، لاسيما وأن تركيا هي الطريق الأفضل نظراً لموقعها الجغرافي بالقرب من جنوب روسيا،وإطلالتها على البحر الأبيض المتوسط، إضافة إلى البنى التحتية المتطورة التي تملكها في مجال تصدير الطاقة النفطية والغازية. وبعد الحديث عن الجانب الاقتصادي من العلاقات بين البلدين، والإشارة إلى مشروع خط غاز (السيل الأزرق) بين تركيا وروسيا الذي أُفتتح خريف العام الجاري، إضافة إلى تناول أهمية العمل على تشييد الخط الثاني بين البلدين انتقل الرئيسين التركي والروسي إلى الجوانب السياسة من العلاقات بينهما، فكانت الإشارة إلى تطابق وجهات النظر في القضايا الدولية، وتحديداً تلك المتعلقة منها بالنزاع في الشرق الأوسط. لكن الأهم كانت لفتة بوتين إلى تأييده الاقتراح التركي- الإسباني بتشكيل (تحالف الحضارات) المنظمة التي يُتوقع منها دور هام في الحوار بين الحضارات. وتاتي أهمية هذه الموقف من كونه رفض وانتقاد ضمنيين للسياسات الأمريكية التي لا يخلو تعاملها مع الملفات الدولية من تأثر بفكرة (صراع الحضارات).‏

إذا كانت روسيا في السنوات السابقة قد اكتفت بالاعتراض الكلامي على ما تقوم به الولايات المتحدة من سياسات تهدد الأمن القومي الروسي وتحمل تعدياً واضحاً على مناطق النفوذ الروسي تاريخياً، فإن الدولة الروسية الحديثة قد تمكنت من استعادة حيويتها وهي تعلن عن ذاتها الآن وبصراحة كقوة إقليمية ودولية قادرة على حماية مصالحها. بهذه الصورة تتجه روسيا نحو رئاسة قمة الثماني المرتقبة في منتصف الشهر الجاري في بطرسبورغ. فهل ستكون القمة منبر تتمكن روسيا أن تؤكد عبره صفتها كقوة دولية؟ هناك ما يدعو إلى التفاؤل.‏

(*)كاتب صحفي متخصص بالشؤون الروسية‏

2006-10-30