ارشيف من : 2005-2008
مستضعفو أميركا والعالم: جبهة واحدة
الانتقاد/ العدد 1126 ـ 9 أيلول/سبتمبر 2005
ليست الكوارث الطبيعية مجرد مصائب تنزل على الناس، بل هي فرصة لإعادة النظر في كثير من الأمور، لعل في مقدمتها صورة أميركا القوية المقتدرة، الدولة التي لا تضاهيها دولة أخرى في العالم، صاحبة التكنولوجيا التي تتحكم بنيزك قرب المريخ لتفجره على بعد ملايين الأميال، والتي تسعى الى تأمين كميات كبيرة من الماء المتجمد تحت تراب المريخ تمهيداً لسلامة إنسان ما قد يرسل لاحقاً الى هناك.
هذه الصورة ليست كل الحقيقة، بل هي الجزء الذي لولا الجزء الآخر لما حصلت.. أي إنها صورة الدولة الأكثر قوة وتقنية على حساب الوجه الآخر الإنساني.
أميركا في الكارثة الأخيرة التي أعقبت الإعصار "كاترينا"، بدت مثقوبة بنقاط ضعف تماثل أحياناً أي دولة أفريقية (بعض الأميركيين شبهها بسيراليون لحظة التمرد). ظهرت العيوب التي ظن الجميع ان أميركا خلاء منها، وبدت الدولة الأعظم تترنح أمام هول ما حصل، لا بفعل قوة العاصفة فقط، بل بفعل سوء الإدارة ونقص التمويل وازدراء الحياة الإنسانية وضعف التنمية في مناطق واسعة. وهذه هي نفسها الأمراض التي تعاني منها دول العالم الثالث التي تعطينا أميركا وصندوق نقدها ومؤسسات أممها المتحدة، دروساً يومية في كيفية معالجة دائنا منها.
ـ فعالية القطاع الخاص أمام سوء إدارة القطاع العام لدينا (العالم الثالث والثاني خصوصاً).
ـ تخصيص أموال للتنمية والرفاه بدل إنفاقها على الجيوش والقوى المسلحة.
ـ الاهتمام بالأقليات واحترام حقوق الإنسان والمرأة والطفل.
لكن ما حدث في نيو أورليانز وأمثالها خلال الإعصار، كشف ما لم يكن في حسبان الكثيرين.
ـ الحاجة الى قطاع عام يؤمن مرافق ويموّل بشكل جيد للقيام بمهام لا تريد أو لا ترغب مؤسسات القطاع الخاص بها، أو هي ليست من مجال عملها غير الخيري.
ـ إن المعاناة عند الأقليات هي في أميركا أكثر حدة من كثير من البلدان التي تتلقى الضغوط والنصائح الأميركية لتحسين أدائها في هذا الملف.
ـ إن الذراع العسكرية للولايات المتحدة قائمة على سحب التمويل من مشاريع تنمية إنسانية لمصلحة الأغراض العسكرية على الأرض أو في الفضاء.
لقد تمتع بوش بقراءة فقرات من تقرير التنمية البشرية العربية ليسجل نقاط إخفاق الدول العربية ويجلدها بسوط التقصير في التنمية، ويحملها مسؤولية التخلف الحاصل في مجتمعاتها بعيداً عن دور الاستعمار والاحتلال والشركات الأجنبية الناهبة للثروات. لكن تبين الآن أن أحد أسباب مصائب نيو أورليانز هو نفسه الذي حاضر فيه بوش على العرب، أي اقتطاع ميزانيات التنمية لمصلحة العسكر.
أما قضية الأقليات، فقد أصبحت شغل الإدارة الأميركية الشاغل، حتى أن الكونغرس أصدر قانوناً بهذا الشأن يخترق سيادة الدول الأخرى.. لكن ماذا عن التمييز العنصري ضد السود الذي ظهر واضحاً أنه يدخل في بنية الإدارة الفيدرالية والمحلية الأميركية، بحيث تحرم مناطق كاملة من التمويل او السرعة في عمليات الإنقاذ ولملمة جراح البشر، أو نقلهم قبل الكارثة المتوقعة، لمجرد كون غالبية هذه المناطق من السود.
لقد عبر رجال دين وسياسيون كبار عن السخط من التمييز ومن ازدراء حياة العرق الأسود، الى حد أنهم وصفوا ما شاهدوه من ابتلاءات الضحايا أنها تشبه المعاناة التي كانت تصيب العبيد خلال نقلهم في سفن العبودية الى أميركا الحالية. وللمناسبة فنيو أور ليانز كانت أحد مرافئ إدخال العبيد المسترقّين أو من تبقى منهم من رحلة الشقاء البحرية الى البلاد الأميركية.
أميركا دولة مثل غيرها لديها مكامن قوة كثيرة ومكامن ضعف ربما تكون أكثر، لكن ما يؤسف له أن مواطن القوة (العسكرية والعلمية والتقنية خصوصاً)، إنما هي قائمة على سلب القدرة من مكامن أخرى: من أيدي ضعفاء أميركا وفقراء العالم.
إنها الرأسمالية المتوحشة في أبشع صورها المفضوحة، تقيم ستاراً من الرفاهية على باطن من الاسترقاق والإفقار، وتصنع وهماً من النمو والحرية والمساواة.. إنها جنة الرأسمال البربري الذي لا يغشّني ولا يتمتع إلا بما يفقر به فقراء الداخل والخارج.
غطرسة وتوسع على حساب إنسانية الإنسان في كل العالم: انها روح المال المتوحش تعصف بمستضعفي سود العالم.. نيو أورليانز ومستضعفو أميركا الفقراء إخوة وحلفاء لمستضعفي العالم العربي والإسلامي، ولفقراء تشيلي والأرجنتين وفنزويللا وبنغلادش والهند.
الكل يدفعون الثمن لشركات تمتص الدماء في أميركا وخارجها على السواء.
د.حسين رحال
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018