ارشيف من : 2005-2008
فيلم برتقال أميركي
الانتقاد/ على العهد ـ العدد 1127 ـ 16 أيلول / سبتمبر 2005
لم يطل الأمر كثيراً حتى فاحت روائح البرتقال "الاورانج" اذ لم تستكمل الثورة البرتقالية الأشهرُ في اوكرانيا فصلها الربيعي الأول حتى دخلت خريفها، وتفرق عشاقها قبل أن تستكمل ولو عمراً قصيراً.
الموضة الاوكرانية انتشرت على متن الأثير الفضائي في كثير من البلدان، كدلالة على عولمة في "الرمز" السياسي، وعلى ما هو أعمق ويتعلق بوجهة هذه الثورات التلفزيونية الملتحقة بالرياح الغربية، وبالتحديد الاميركية التي حملت شعارات الاصلاح ومحاربة الفساد، الحرية، الديمقراطية، والتنمية الاقتصادية.. الخ.
المثال الاوكراني كان الأكثر دوياً لاعتبارات عديدة، منها أهمية الدولة النووية الثانية في الاتحاد السوفياتي السابق، وعدد السكان (50 مليوناً)، ثم كون الثورة تسلخ "كييف" عن النفوذ الروسي، وتحاصره لمصلحة النفوذ الاميركي.
الأكثر أهمية هو تحول الثورة الاوكرانية الى نموذج يحمل القيم والشعارات والأهداف نفسها في أكثر من بلد باعتبارها ثورة من تحت، من الشعب، على أنظمة دكتاتورية أو غير شرعية باتجاه النموذج السياسي والاقتصادي الاميركي، أي باتجاه الحلم الاميركي.
وبغض النظر عن تعديل صورة اميركا نفسها بعد اعصار كاترينا، وظهور التصدعات المخفية في البنية الاميركية، كانت الأشهر القليلة الماضية كفيلة بإظهار "فساد" النموذج البرتقالي للحلم الاميركي في العالم.
اكتشف "برتقاليون" كثيرون في اوكرانيا وجورجيا ان دعاة الاصلاح وأبطال المواجهة مع الأنظمة السابقة ليسوا أفضل حالاً من سابقيهم، بل هم مجرد حفنة من المتسلقين والفاسدين ركبوا رياح التغيير ليصلوا الى السلطة، وتخلوا عن كل الشعارات التي لم تكن أصلاً هماً حقيقياً.
طلاب سلطة اذاً باسم الحرية والاستقلال، أضافوا الى المشكلات الاقتصادية السابقة لبلدانهم أزمات جديدة جعلت كثيراً من الناس يترحمون على من سبق.
فساد ومافيات وصراع غير ديمقراطي على المراكز والسلطات، ولكن مع فارق واحد هو أن الراعي والداعم للنظام تحول من الشرق الى الغرب.
انهار الحلم الاميركي لدولة مؤسسات اصلاحية، وبازدهار اقتصادي، وبحريات حقيقية، وإذ بالسياسة الاميركية "المهيمنة" أكثر إجحافاً من بعض النواحي من أوصياء سابقين كانوا على الأقل يقدمون البترول والغاز الى المثال الاوكراني، فيأخذون ويعطون، بينما أميركا تأخذ ولا تعطي.
وبين الفورة والتهاوي تكشفت حقائق كثيرة بعضها عبر وسائط اميركية وأخرى من دهاليز التحركات البرتقالية، كشفت كم كانت هذه الثورات تلفزيونية أكثر مما هي حقيقية، بعض التظاهرات التي ركزت عليها الكاميرات ليلاً ونهاراً لم تكن تحوي أكثر من بضعة آلاف، وأحياناً مجرد بضعة مئات من الأشخاص صوّرتهم فضائيات العولمة على أنهم "الشعب" كله، ووصفت تحركاتهم بأنها حشود بمئات الآلاف.
معلومات أخرى تكشفت عن المحركين ودور المخابرات الاميركية وبعض الممولين المتصلين بها في تأمين السيولة المالية لكثير من التحركات التي أعطيت الصفة الشعبية.
في أوكرانيا النموذج صرف أكثر من 60 مليون دولار على ادارة اللعبة الاعلامية ـ الاعلانية لتقديم صورة مضخمة عن التظاهرات البرتقالية، ولتوجيه مسارها باتجاه اسقاط النظام السابق الذي كان يتمتع بشعبية لا تقل أصلاً عن شعبية معارضيه.
كثير من الشعارات والألوان طرحت، وآمال عريضة بددت في مسرح واسع هو العالم، بطله مخرج انتج عمله الممول على أرض الواقع، وهذه المرة ليس في استديوهات هوليود، بل على أرض دولة، وببشر حقيقيين مغفلين صدقوا "البروباغاندا الاميركية" فدفعوا الثمن مرتين وندموا.
هذه هي مآلات الثورات التلفزيونية ـ الواقعية: لعب بمصائر البلدان وبناسها البسطاء (وخصوصاً المثقفين المتغربين منهم) لكن مع فارق واقعي هو أن المحتل ليس البطل، لأنه يدفع الثمن مجدداً بنظام أسوأ من السابق، من يربح هو المخرج فقط.
د.حسين رحال
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018