ارشيف من : 2005-2008
تفاهم لبناني بامتياز
في 24 ساعة انعكست الصورة وانقلبت الآية: لبنان المنقسم على نفسه طائفياً، الغارق في الشغب وإلغاء الآخر وتكسير رموزه، والمشحون بالحقد والسكاكين المذهبية، والمتناحر حتى الموت في شوارع العاصمة إلى كل شاشة وإلى كل بيت في العالم، انقلب إلى صورة أخرى في الضاحية الجنوبية.
احترام متبادل، لقاء من موقع الاختلاف، إجلال لمقدسات الآخرين، عالم الدين المسلم يزور كنيسة في منطقته محافظا عليها برغم الجوار المسلم من دون أي إساءة، نظرات الأخوة والتفاهم بين آخرين من طائفتين مختلفتين هي السائدة، اتفاق على صيغة تعايش حضاري بين اللبنانيين كمواطنين ينشدون مجتمعاً يحتضن الجميع، ودولة عصرية حديثة تحترم مواطنيها وتساوي بينهم.
هذه الصورة الحضارية للقاء سياسي نوعي هي التي مسحت كثيراً من دخان وغبار اليوم السابق عليها، لتعتلي الشاشات نفسها وتقول إن في لبنان ديناميكية تعايش وبناء دولة أقوى من ديناميكية الانقسام والتفتيت.
لم يحتج السيد نصر الله ولا العماد عون الى إذن من أحد في الداخل أو في الخارج ليلتقيا ويتفاهما، فاللقاء لبناني بامتياز، ونقاط التفاهم التي توصلا اليها بعد أسابيع وأشهر من النقاش، لم تأخذ رأي أحد في أي عاصمة، لأن أصحاب الإرادة الحقيقية لا يحتاجون إلى أي توجيهات أو نصائح، بخلاف ضعاف الإرادة والنفوس والتمثيل.
الصراحة والصدق شرطا النجاح في أي تعامل، فكيف الحال اذا كان الشأن وطنياً عاماً؟ فكل الأمور طُرحت على الطاولة، من سلاح المقاومة إلى مصير عائلات العملاء، إلى الإصلاح الداخلي والسياسي والعلاقات مع سوريا، فلا مقدسات سياسية في الحوار باستثناء المسلمات الوطنية العامّة.
من هنا كان اللقاء "نوعياً" ـ حتى أن البعض سمّاه بـ"لقاء العمالقة" نسبة إلى لقاءات سياسية أخرى ـ ليس بسبب الزمان والمكان ووزن الرجلين، بل للمضمون والنموذج المقدم، فلم يذهب "التيار" و"الحزب" إلى أي عاصمة ليوقعا تفاهماً وتعاوناً، بل ذهبا إلى حيث يلتقيان على أرض لبنانية مشتركة، فاللبنانيون ضمانة بعضهم لبعض، وليس الآخرون.. وهذا هو النموذج في أحد أبعاده.
إن مناقشة موضوعات حساسة كالتي وردت في وثيقة التفاهم المشترك هو أمر لبناني محض، يستطيع المخلصون أن يتوصلوا اليه من الند للند ومن الأخ للأخ. وهذا يعني أن اللبنانيين اذا تُركوا من دون تدخل خارجي باسم القرارات الدولية أو غير الدولية، يستطيعون التفاهم وحكم أنفسهم بخيارات ذاتية تنبع من مصالحهم العليا.
هذا النموذج الحواري تجاوز خطابات السياسيين الضحلة والسياسات اليومية السخيفة العالقة في استراتيجية تسجيل النقاط لا حفظ الوطن، فالدخول الى عمق المسائل يستطيع أن ينتج وثيقة تحدد العدو من الصديق، وتظهر الهوية الوطنية للدولة الحرّة والملتزمة.. هو إذاً تحديد موقع لبنان مع أصدقائه وأشقائه، وأيضاً تجاه عدوه، وكذلك تحديد لمستقبل الدولة العصرية التي تتكئ على الديمقراطية التوافقية، من دون أن تنسى الاتجاه الى دولة القانون والديمقراطية الفعلية في لحظ للخصوصيات المحلية وللطموحات الدستورية الحقة لمجتمع مدني يوفر المساواة والحرية وحكم القانون ومحاربة الفساد وتعزيز سلطة الدولة.
ليس اللقاء لمجرد اللقاء، بل هو لتعزيز تفاهم اللبنانيين على وطن فيه مسلمات عليا، وعلى دولة عصرية قابلة للحياة بخصوصياتها، وآليات سلمية لفض الخلاف وتقبل الاختلافات. وهي بالتالي ورقة مفتوحة لحوار وطني شامل، وليست جبهة ثنائية مغلقة، بل خطوة نوعية في السياسة اللبنانية.
إنها نقلة مدروسة وسط سياسات خبط عشواء، ودرس في الحوار السياسي والوطني لأصحاب منهج التقاصف السياسي والكيد الوطني والانقلاب الموسمي والضحالة في الممارسة والفكر السياسي. ولأنها كذلك كانت خطوة ابتهج لها اللبنانيون، وتسمروا ـ ومعهم عرب كثيرون ـ أمام شاشات التلفزة، تملأهم بهجة امتصت مفاعيل "المقت" الذي سببته مشاهد سابقة، لتقدم الممارسة النوعية الجديدة ضمانة داخلية وطمأنة ذاتية في ظروف القلق السائدة إقليمياً ودولياً، بأن في الوطن من يستطيع أن يمد جسور التعاون والأخوة بدل خطوط التقسيم الوهمية التي أنشأتها في الأذهان ممارسات الآخرين.
وعلى العكس من هذه الأجواء، كانت التداعيات سلبية على المعلقين الصهاينة، عبّرت عنها مواقف مثل وصف اللقاء بالصدمة، وبأن نتائجه لا تشعر "إسرائيل" بالراحة.
نموذج للقاء سياسي لا يلغي فيه طرف آخر ولا يندمج به، بل يؤسس لمنطق التعايش الذي يحدد نقاط التوافق، ولا يتناسى نقاط الخلاف وآليات حلها أو التعايش معها، هو نموذج يحيي التنوع ولا يلغيه، ويطور الحياة السياسية في لبنان والمنطقة، ويقدم وجه المستقبل، ويعيد الأمل بلبنان الغد.
د.حسين رحال
الانتقاد/ على العهد ـ العدد 1148 ـ 10 شباط/فبراير 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018