ارشيف من : 2005-2008
أين المشكلة
ليست المرة الأولى التي يخرج بها اللبنانيون الى الشارع رافعين شعارات مطلبية معيشية، لكنها المرة الاولى التي تشن فيها حملة سياسية على المواطنين العاديين بأنهم ينفذون مشاريع سياسية "خارجية" في أوركسترا منظمة بين التلفزة والصحف المتنوعة، وكأن المتظاهرين في كل مدن البقاع من زحلة وحتى الهرمل هم "عملاء" لدول أخرى، أي اتهام الشعب اللبناني أو غالبيته بهذا الاتهام البشع والغوغائي.
تناسى أصحاب هذه الحملة المنظمة أن المحتجين يعانون البرد بعد الافقار الذي سببته سياسات الحكومات "الليبرالية" الماضية على مدى العقدين السابقين. وأن كثيراً من المنازل وخصوصاً في البقاع وكذلك في الشمال والجبل وبعض المناطق المرتفعة في الجنوب لا يجدون كسرة خبز ولا ليتراً من محروقات التدفئة بسبب عدم القدرة على شرائها فماذا يفعلون. أليست المسألة هامة الى الحد الذي يجب أن يحظى باهتمام كل الأطراف السياسية وليس فقط الذين يمثلون البقاع في مجلس النواب او المناطق الأخرى، أليس من الطبيعي ان تقف القوى السياسية الممثلة لهذه الجموع المهددة بالصقيع والموت الى جانبها في مطالبها المحقة.
وأن من غير المنطقي تجاهل ما يحدث وكأنه في بلد آخر أو يخص مواطنين لا علاقة لأحد بهم.
ان تسييس المطالب الشعبية في حيزه الطبيعي غير مستغرب، لكن التسييس المصطنع هو الذي يجب تسليط الضوء عليه، وهو التسييس الذي مارسته القوى المناهضة للتحرك الشعبي عبر ربطه بما وراء الحدود، واستغلاله في حملة سياسية "مشبوهة" لرمي كل مطالب محقة، وكل جهة سياسية مساندة، بالارتهان للخارج.
انه دفن للرأس في الرمال وهروب من تحمل مسؤولية مواجهة مشاكل الناس، وتخلّ عن الواجبات في رعاية المواطنين، وتخفيف ضغوطات النوائب عليهم، وهو أمر لا يمكن تغطيته عبر التلطي خلف أسباب سياسية للتحرك، وترك الناس تموت برداً بعدما أنهكها الفقر والجوع.
المشكلة ليست في تظاهر من لحقهم الصقيع وأصاب أبناءهم بالأمراض والبرد والتهجير، بل في سياسة الدولة الفاشلة والفاحشة في إجحاف الفقراء وإغناء الأغنياء، اذ ليس في المشروع "النيوليبرالي" الذي يقود رؤية الحكومة والدولة سابقاً وحالياً، أي منحى انساني ـ اجتماعي، بل هو رأسمالي متوحش يحمّل الشرائح الفقيرة أعباء الدين والعجز والمشاريع والهدر والسرقات، ولا يجرؤ على اشراك الشرائح الأكثر غنى في هذه الأعباء.
لا يحق لرئيس الوزراء ولا للحكومة أن تعامل الناس بالأرقام، وكأنهم أرقام أو كميات يتم تعدادها كما يعد الصراف النقود أو المحاسب أعداد حساباته. إنهم يختزلون البشر من مشاعرهم ومن مطالبهم ومن حاجاتهم ومن إنسانيتهم، فلماذا اذاً الاعمار والتنمية، هل هما للسياح وأصحاب البنوك والشركات الكبرى والمستثمرين.
انها المشكلة في الرؤية العامة الاجتماعية للبلد، هل هو لابنائه كلهم أم لشريحة محددة على حساب شرائح أخرى، أو أنه لخدمة منطق الاستثمار والخدمات للآخرين على حساب تجويع وتصقيع غالبية المواطنين غير القادرين على تأمين تدفئة شهر واحد الا بما يوازي الحد الأدنى للأجور بكامله.
ما هي اذاً الحلول الواقعية للأمر: إما ان تتدخل الدولة وتؤمن التدفئة بأسعار يستطيع المواطن دفعها، او تركه للهلاك برداً، وهو ما لن يفعله أحد. ان الحكومة تضع نفسها هي عمداً في مواجهة الناس ومطالبهم المحقة، وتجعل نفسها في موضع "مشبوه" و"متخاذل" عن القيام بواجباتها الاجتماعية لأن الشعب لن يسمح بذلك حتى لو دفنت الحكومة رأسها في رمال المازوت المسيس لرفض التجاوب مع حقوق لا لبس فيها.
د.حسين رحال
الانتقاد/ على العهد ـ العدد 1136 ـ 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2005
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018