ارشيف من : 2005-2008

تكاذب لا حياة سياسية

تكاذب لا حياة سياسية

الانتقاد/ على العهد ـ العدد 1139ـ 9/12/2005‏

يعاني اللبنانيون نوعاً من القصف السياسي والإعلامي لا يتركهم يأخذون موقفاً عن روية وتأمل بقدر ما تسوقهم شعارات ملتبسة تعامل كحقائق مسلّم بها دون أدنى نقاش. من تلك الشعارات الأكثرية والأقلية، والاجماع الوطني والمجتمع الدولي والوصاية، وأخيراً الكشف عن مقابر جماعية:‏

لم تكن المقابر الجماعية جديدة على أسماع اللبنانيين، ولم يدعُ أحد إلى التعتيم عليها، ذلك أن أعظم مجزرة نجم عنها عشرات المقابر الجماعية حدثت إبان الغزو "الإسرائيلي" للبنان عام 1982 التي أهلكت عشرات الألوف من المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين ومن جنسيات أخرى كانت تقطن لبنان ذلك الحين.‏

فهل المطلوب إيصال الأمور إلى نهاياتها ومحاسبة "إسرائيل" دولياً على ما ارتكبته، أم أن المطلوب توظيف قضية المقابر الجماعية لحساب الحملة الأميركية الراهنة، وفي هذا التوقيت بالذات ضد سوريا، والمساهمة في ضغوط سياسية وإعلامية لتحصيل مكاسب سياسية في أكثر من ملف إقليمي.‏

هل يستطيع أصدقاء أميركا في لبنان وحلفاؤها وحواريّو دبلوماسييها إقناع أصدقائهم بالسماح بإدانة "إسرائيل" على جرائمها الجماعية سواء في اجتياح 1982 وغيره؟‏

والسؤال الأصعب هل يرهن هؤلاء استمرار صداقتهم بموقف أميركي من الجاني المفترض، حتى ولو تبين أنه "إسرائيل"؟ ماذا عن الموقف المشين والمخزي للإنسانية الذي اتخذته واشنطن لمنع إدانة "إسرائيل" في مجلس الأمن الدولي بعد اقترافها لمجزرة قانا عام 1996، والضغط على الأمين العام للأمم المتحدة حينها بطرس غالي لشطب عبارات مدينة لـ"إسرائيل" في التقرير الدولي حول المجزرة، فلماذا لم يأخذ أصدقاء أميركا في لبنان موقفاً جاداً من هذه الإهانة الأميركية لشهداء المقبرة الجماعية في قانا، ولبقية اللبنانيين، ما داموا حريصين على الحقيقة ومعاقبة الفاعل في مقابر يظنون الآن أن فاعلها غير "إسرائيل".‏

تأخذ الأمور ضمناً أكثر سخرية عندما يطلع علينا محاضرون في معاقبة المجرمين والمقابر يندبون حظ الإنسانية على ما حصل، فيما هم أنفسهم رموز مجازر ومقابر يندى لها الجبين.‏

هكذا يبدو مصطلح "المجتمع الدولي" نوعاً من التعمية على ممارسات دولية شائنة على غرار ما تشير اليه الحياة السياسية اللبنانية من تجاوزات وتعميات وفقدان المعايير الحقيقية في العدالة والشفافية والمساواة.‏

يبدو بعض اللبنانيين أحياناً ملكيين أكثر من الملك، فخطاب نفي الوصاية الدولية وتأكيد السيادة الداخلية لا يأخذ بالاعتبار أبسط المعطيات السياسية اليومية من تبرير لتدخل السفراء الأجانب في كل التفاصيل اللبنانية.‏

بل يبدو الدفاع في غير مكانه عندما يؤكد كوفي أنان نفسه تدخل المسؤولين الأميركيين في شؤون لجنة التحقيق الدولية بشأن اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، سواء في تعيين رئيس اللجنة أو في سلوكه، فيما يتهم الأميركيون على لسان سفيرهم بولوتون أنان نفسه بالتدخل، فهل بات بعض المزايدين اللبنانيين أكثر حرصاً على الوصاية الدولية وتدخلاتها من أنان نفسه ومن السفير الأميركي في الأمم المتحدة نفسه أيضاً.‏

ثمة ارتزاق سياسي من شعارات ديماغوجية لا يحدد معناها ولا تنطبق على ما تطلق عليه، تارة باسم التوافق ومرة باسم الاجماع، وأخرى باسم الدستور، وأخيراً باسم العدالة الإنسانية.‏

اخترع اللبنانيون مصطلحاً غير مألوف في العالم هو الديمقراطية "التوافقية" الذي لم يعرف بعد ماذا يعني، ولا كيف يطبق، وقاربوا الديمقراطية المصهورة باسمه تحت شعار رفض الديمقراطية العددية، ولما انقلبت الرياح إلى غربية بات الحديث الآن عن حقوق الأكثرية والأقلية، ولما طلب البعض التوافق حول موضوع مفصل باعتبار لبنان بلداً لا يحكم "بالعددية" جاء الرد من أصحاب شعار الديمقراطية التوافقية بأن ذلك خروج عن الإجماع ورفض للأكثرية وابتزاز سياسي.‏

خطاب سياسي مأزوم ومراوغ لا ينم عن حياة سياسية سليمة، ولا يُبشر ببناء دولة حقيقية طالما التكاذب السياسي هو السائد محل الشفافية، والنفاق محل الصدق مع الشعب، والاستنفار الطائفي محل الوحدة الوطنية، والتوافق مع رياح الغرب الخارجي محل التوافق اللبناني الداخلي.‏

د. حسين رحال‏

2006-10-30