ارشيف من : 2005-2008
جعجع يتجاوز الماضي ويصوّب على سوريا:روح العسكريتاريا ونفس القائد الميداني صبغت خطابه الأول
الانتقاد / مقالات ـ العدد 1120 ـ 29 تموز / يوليو 2005
اكتمل عقد سبحة العمل السياسي في لبنان مع اطلاق سراح قائد القوات اللبنانية سمير جعجع من السجن بعد اقرار قانون العفو عنه من قبل مجلس النواب. هذا العقد الذي ما زالت تتحكم فيه الشخصيات ذاتها والاحزاب ذاتها والخلافات ذاتها التي عصفت باللبنانيين في السنوات الماضية, وزادها غموضاً وتعقيدا الخطاب الذي ألقاه جعجع بعيد الافراج عنه وقبيل مغاردته لبنان الى فرنسا.
العناوين الخلافية هي هي, من هو الصديق ومن هو العدو, ربما لكل طائفة في لبنان صديق وعدو مختلف عن الاخر, حتى ان المجرم هنا يمكن أن يكون هناك بطلاً ومحرراً, والخيارات السياسية ضائعة على اعتاب الطوائف ومصالحها، والكل يرى لبنان من منظوره، ولعل هذا اللبنان كتب عليه الاختلاف ثم الامعان في الاختلاف او التزاوج بالاكراه.
فسمير جعجع النموذج القديم الجديد وهو آخر الشخصيات التي لعبت دوراً كبيراً في الحرب، وكان طرفاً رئيسياً فيها، لم يبدِ اي تغيير ملحوظ، وإن حاول هضم التحولات التي حصلت إبان قضاء فترة المؤبدات الثلاثة التي صدرت بحقه قبل ان يعفو عنه مجلس النواب. فالخطاب الذي ألقاه في صالون الشرف في مطار الرئيس رفيق الحريري الدولي، وإن كان بلباس مدني، لكنه يحمل البندقية واحتمال أدوات التفجير في آن, وما اراد سماعه اللبنانيون او لنقل جزء كبير من اللبنانيين لم يسمعوه, إذ حاكى الخطاب فئة افترض جعجع انها ظُلمت وجاء ليخلصها ووعدها بذلك. وعدا عن بعض العبارات التي تحدث فيها عن "لبنان بجناحيه المسلم والمسيحي"، وعن "بناء المستقبل"، وعن "ان مصطلحات الحرب لم تعد صالحة"، لأمكن القول ان جعجع خرج من السجن كما دخل، بل أشد ايماناً بالقضايا التي قاتل لأجلها سنوات طويلة، ودخل بسببها السجن.
وما يثير الريبة في هذا الأمر هو تقديس او تعميم او اسقاط صورة القديس على جعجع لدرجة ان من لا يعرفه يعتقد انه خرج من الدير وليس من السجن, فهو بريء و"مظلوم" نتيجة الاحكام القضائية المبرمة التي صدرت بحقه، الامر الذي انعكس في خطاب جعجع نفسه حيث لم يتطرق الى ماضي الحرب ومآسيها وما جناه على الاقل في اربع جرائم ثبتت عليه، وتمت ادانته بها، وهي اغتيال الرئيس رشيد كرامي، اغتيال داني شمعون وزوجته ووولديه, مجزرة اهدن التي ذهب ضحيتها طوني فرنجية نجل الرئيس سليمان فرنجية، ووالد النائب والوزير السابق سليمان فرنجية، اضافة الى زوجته وولديه والعديد من انصاره، فضلا عن ادانته في مقتل المسؤول في القوات اللبنانية الياس الزايك. كل هذه الجرائم التي حكم بها جعجع تغاضى عنها، فهي أتت في اطار الدفاع عن الذات والنفس وعن المبادئ التي يؤمن بها وما زال، والتي فضل قضاء كل هذه المدة في السجن لاجلها على ان يتخلى عنها, "فأنا كنت اعيش قناعاتي، ولو على مساحة 6 أمتار مربعة فقط, كان هذا بالنسبة اليّ أفضل بما لا يقاس من ان اعيش قناعات غيري، ولو على مدى مساحات الكون في رمته".
واذا كان من المبكر تحديد المتغيرات التي حصلت في استراتيجية جعجع البعيدة أو حتى القريبة, الا أن ما تطرق اليه بقدر ما لاقى حرارة وتصفيقاً لدى انصاره فقط، فيما بدت الخيبة لدى العديد من الاطراف اللبنانية، ولم يقتصر هذا الأمر على المسلمين إنما على المسيحيين ايضاً, ولم يكن مفاجئاً مثلاً أن يعترض رئيس حزب الوطنيين الاحرار دوري شمعون على عدم تضمن خطاب جعجع أي اعتذار عما اقترفته يداه في جريمة مقتل اخيه داني وزوجته وولديه. وفي الاطار ذاته ايضاً الرئيس عمر كرامي إذ اعتبر ان شقيقه الرئيس رشيد كرامي قتل مرة اخرى.
وبالعودة الى ما تضمنه خطابه وما اغفله الى جانب عدم ابدائه اي اشارة تفيد بالندم او الاعتذار عن فترة الحرب الأهلية، فقد ركز على حقبة التسعينيات، اي الحقبة التي تلت اتفاق الطائف, والتي وصفها بالظلماء والسوداء التي "كادت تطيح الوطن, بدأت باغتيال الرئيس الشهيد رينيه معوض، وبمحاولة اغتيال اتفاق الطائف، ولم تنته باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري".
وحمّل سوريا من دون ان يسميها مسؤولية كل هذه الظلامة التي مر بها لبنان لا سيما مسيحييه "فصمموا على كسر أحدهما واقتلاعه من أساسه إذا اقتضى الامر، فأمعنوا بالوطنيين نفيا واعتقالا وتشريدا واضطهادا وسجنا وتعذيبا وقمعا وقهرا وأشاعوا في النفوس خوفا وفي القلوب اضطرابا، ما دفع قسما كبيرا من شباب لبنان الى الهجرة ـ قسرا ـ وترك أرض آبائهم وأجدادهم".
حتى في حديثه عن المستقبل و"الشركاء" والبناء لم يتطرق الى الصيغة التي ستحكم هذه العلاقة حتى أنه لم يعط موقفاً من الطائف، واكتفى بالاشارة الى ان "بيتنا اللبناني الداخلي في حالة اختلال وعدم توازن نتيجة الـ15 عاما من القهر، لكننا لن نألو جهدا لمزيد من التفاهم مع حلفائنا على اعادة التأهيل اللازمة".
نقطة أخرى أغفلها جعجع, فمع تركيزه على المتغيرات التي قادت الى الافراج عنه وعلى رأسها 14 آذار وخروج القوات السورية من لبنان، أغفل عمداًَ الاندحار الاسرائيلي عن جزء كبير من لبنان كحدث سياسي وميداني مهم جداً حصل أثناء وجوده في السجن, وكأن هذا الأمر لا يدخل في صلب استرجاع السيادة اللبنانية, وأيضاً وكأن الإنتهاكات الإسرائيلية اليومية لا تشكل تعدياً على السيادة اللبنانية، وفقط ثم فقط سوريا هي عدوة لبنان واللبنانيين.
خلاصة الخطاب الذي ألقاه جعجع بحدة العسكري والقائد الميداني والتعبوي، هي الحرص على الإيحاء بأنه القائد الأوحد للمسيحيين مدغدغاً عواطف أنصاره، خاصة باستخدامه حركة يداه لطمأنتهم ربما بأن لا شيء تغير فيه, مع العلم ان معظم اللبنانيين اهتموا بسماع خطابه سواء الانصار او الاطراف الاخرى التي حاولت ان تجد شيئاً جديداً بهذا الرجل.
ومقابل هذا الانطباع الذي ساد في صفوف انصار القوات كانت الصورة في المقلب الاخر معاكسة تماماً في مشهد يعبر عن تناقض كبير في التعاطي مع اطلاق سراح جعجع حيث ذهب انصار الرئيس الشهيد رشيد كرامي الى ضريحه لقراءة الفاتحة عن روحه، في اشارة الى الأسى الذي يشعرون به.
وما زاد الطين بلة هو الصورة التي قدمته بها القوات اللبنانية في بيان حمل عنوان سيرة جعجع الشخصية على أنه المخلص الذي لم يسعفه الوقت ولا القيادات المسيحية في تحقيق مشروعه في بناء المجتمع المسيحي, فهو القائد العسكري الذي "قاتل الغرباء في حرب السنتين 1975- 1976 على رأس القوات الكتائبية في بشري, وقاد معركة تحرير الكورة في 8/7/1976 وفي العام 1978-1979 بدأ بجمع شمل الكتائبيين الذين تركوا قراهم بسبب اضطهاد القوات السورية وجماعة فرنجية, وقاد معركة قنات في 12 شباط 1980 ضد القوات السورية التي دمرت القرية فانسحب الى خط الدفاع الاول على حدود منطقة البترون بعدما كبد القوات السورية خسائر فادحة". ولان "البشر اهم من الحجر" امر بالانسحاب وقاد المدنيين والمقاتلين المسيحيين في الجبل الى بلدة دير القمر لتجنب المجازر، وكرر التاريخ نفسه كما في 1860 ولكن هذه المرة لم يذبح الدروز ضحاياهم في دير القمر".
ولم يسلم من هذه السيرة السياسيون المسيحيون حيث قالت انه في "12 آذار 1985 بعد تردي الوضع السياسي المسيحي داخل المناطق الشرقية نتيجة لمحاولة الرئيس امين الجميل الهيمنة على كل القوات والمقدرات قاد بالاشتراك مع ايلي حبيقة وكريم بقرادوني انتفاضة ادت الى السيطرة على الوضع السياسي بدون اي اهراق للدم". حتى الاموات أيضاً لم يسلموا ففي "9 ايار 1985 ايلي حبيقة (قائد جهاز الامن في القوات يومها) يقوم بانقلاب ابيض تمهيدا للسيطرة على الارض وامرار الاتفاق الثلاثي برعاية سورية، وفي 15 كانون الثاني 1986 بعد تردي الاوضاع والفلتان وقيام حبيقة بممارسات قمعية ضد من عارض اسلوبه في صوغ الاتفاق الثلاثي، وبالتالي التنازلات قاد سمير جعجع انتفاضة عسكرية ادت الى اسقاط الاتفاق وخروج حبيقة من المناطق الشرقية بحيث اصبح سمير جعجع قائدا للقوات اللبنانية ولا يزال. وفي 27 ايلول 1986 قاد بنفسه الهجوم المضاد ونجح في طرد المتسللين من جماعتي حبيقة وامل والاحزاب اليسارية خارج الاشرفية".
و"لان القوات ام الصبي" اضاف بيان سيرة جعجع الشخصية "استوعب بحكمته وجرأته محاولة الجنرال عون إلغاء القوات اللبنانية، وقدم له التنازلات تجنبا لحمام دم، وعلى رغم عدم مشاركة القوات في اخذ قرار "حرب التحرير" امر بتقديم
كل الدعم اللوجستي والمدفعي للجنرال عون في حربه، وفي 31 كانون الثاني 1990 واجه الجنرال عون في حرب الغائه الثانية للقوات اللبنانية ولو مكرها, وسيطرت القوات اللبنانية عكس كل التوقعات على ثلثي المناطق المسيحية.
أما بالنسبة إلى الأحكام القضائية التي صدرت بحقه فاعتبرت السيرة أنها ملفقة وزور في قضيتي شمعون والزايك. أما في موضوع محاولة اغتيال ميشال المر فلم يعلق البيان عليها، واكتفى بالاشارة الى انه "حكم عليه بالسجن المؤبد في قضية محاولة اغتيال الوزير ميشال المر".
لكن بيان السيرة الشخصية لسمير جعجع اسقط جريمة اغتيال الرئيس رشيد كرامي, وكأنها لم تكن.
مروان عبد الساتر
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018