ارشيف من : 2005-2008
تفاقمها يطرحها كأولوية متقدمة:الأزمة الاقتصادية تحت المجهر.. وإملاءات الوصاية
الانتقاد/العدد 1116 ـ 1ـ تموز/يوليو 2005
يطرح التفاقم المتزايد في الوضع الاقتصادي أسئلة مقلقة ومحيرة على خلفية البحث عن حلول في وقت يتعرض فيه لبنان الى ضغوط متعددة الاتجاهات يقودها التحالف الأميركي الفرنسي تحت عنوان إعادة ترتيب البيت اللبناني بعد انسحاب القوات السورية من لبنان, وتحديد دوره في آلية المواجهة مع العدو الإسرائيلي التي تمثل المقاومة قوة التصدي الأساسية له. وواضح من المعطيات أن الوصاية الأميركية الفرنسية على لبنان تخلط بشكل كبير السياسة بالاقتصاد، لأنها تدرك جيداً مدى الترابط الوثيق بينهما، وبالتالي الدخول الى أهداف أخرى. لكن ذلك لا يلغي أن لبنان يعيش مأزقاً اقتصادياً عمقته التطورات السياسية الأخيرة والفساد المستشري في الإدارات، في ظل عدم توافر أي نية حقيقية للإصلاح سابقاً. وهذا ما يضع المجلس النيابي والحكومة الجديدين أمام تحديات البدء بالإصلاح، حتى لو كان ذلك يشكل تحدياً لقوى باتت مستفيدة من هذا الواقع، خصوصاً أن لبنان ـ كما قال سابقاً رئيس البنك الدولي ـ هو عبارة عن مركب مثقوب سيغرق الجميع إذا ما غرق.
تشير الدراسات التي أجريت مؤخراً الى انخفاض مستوى الدخل والإنفاق معاً لدى شريحة واسعة من اللبنانيين, خصوصاً أن توقعات عام 2005 ستكون مغايرة لجميع التوقعات الاقتصادية في الأعوام السابقة، بحيث لم تحصل أي نسبة نمو هذا العام.. بل على العكس تماماً، فإن التخوف من حصول انكماش في الناتج القومي ينسحب على القيمة المضافة للاستثمارات المحلية.
وأشار استطلاع في هذا السياق الى أن كلفة الشلل الاقتصادي الحاصل حالياً يمكن أن تصل في ظل غياب أي نشاط استثماري جديد في الأسواق إلى خسائر تقدر بـ(750) مليون دولار، وذلك بعد ان قدر خلو 70% من الفنادق، 80% من المطاعم والمقاهي، 80% من شركات تأجير السيارات. وهذه القطاعات تؤلف مع الخدمات الأخرى أكثر من 60% من الناتج القومي، و90% من خدمات التأمين، و90% من قطاع الإعلان.
ولفت الاستطلاع المذكور الى أنه إذا ما استمر هذا الشلل أو الجمود المفروض، فإنه سيضرب الاقتصاد الوطني في مكوناته الاستثمارية بشكل عام.. أي سيفقد المستثمرون الثقة في الاستثمار في لبنان، أو في الإيداع في المصارف اللبنانية في ظل غياب أي طلب أجنبي او محلي في فترة الاصطياف والسياحة العامة. ويمكن لهذا الشلل ان يتعدى ملياراً و200 مليون دولار حتى أيلول/ سبتمبر 2005.
ويقدر رئيس جمعية الصناعيين فادي عبود أن نسبة البطالة في لبنان قد تكون بلغت 20%، مشيراً إلى انخفاض في استهلاك الضروريات تراوح ما بين 20 و30%، وانخفاض في استهلاك الكماليات بلغ 70%، من دون أن ننسى التراجع الكبير في قطاع البناء بعد عودة قسم كبير من العمال السوريين إلى بلدهم، حيث كانوا يوفرون اليد العاملة الرخيصة. وأكدت مصادر أصحاب العمل أن النشاط انخفض بشدة في العديد من ورش البناء منذ منتصف شباط/ فبراير الماضي.
في المقابل بدأ قطاع السياحة الحيوي للاقتصاد اللبناني يفقد زخمه بعد تراجع نسبة السيّاح الوافدين إلى لبنان. ويشير الخبير الاقتصادي مروان اسكندر إلى انخفاض عدد السياح في آذار/ مارس بنسبة 16% قياساً على ما كان عليه في الشهر نفسه من العام الماضي.
في موازاة ذلك انخفض احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية وفق مصدر مصرفي من 11 مليار دولار إلى نحو 9.5 مليارات دولار بعد اغتيال الحريري، مقارنة مع 31.3 مليار دولار في عام 2003. وذكر المصرف المركزي في نشرته أن الدين الخارجي بلغ 18.41 مليار دولار في نهاية عام 2004، مقابل 18.76 مليار دولار في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.
وأوضح البنك المركزي أن الدين العام الصافي وصل 49.762 تريليون ليرة لبنانية (32.867 مليار دولار) في نهاية عام 2004 مقابل (50.943) تريليون ليرة (33.64 مليار دولار) في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.
ويعتبر الدين العام اللبناني من أعلى الديون في العالم، فهو يشكل 185% من الناتج المحلي الإجمالي، وتجمع معظم هذا الدين بعد العام 1992. وفي السياق الاقتصادي أيضاً أعلن المصرف المركزي أن لبنان سجل عجزاً في ميزان المدفوعات بلغ 232.3 مليون دولار خلال الأشهر الأحد عشر الأولى من العام الماضي، مقابل عجز بلغ 102.4 مليون دولار في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي وحده!..
وكان لبنان حقق فائضاً في ميزان المدفوعات بلغ 3.39 مليارات دولار في عام 2003، بعد تدفقات مالية من المانحين الدوليين عقب مؤتمر "باريس 2" الذي عُقد في أواخر عام 2002، ووفر للبنان قروضاً ميسرة بلغت نحو أربعة مليارات دولار للمساهمة في خدمة الدين العام اللبناني، برغم أن بعض الدول المشاركة لم تف بالتزاماتها.
ومع انحسار التوتر السياسي على الساحة المحلية وإجراء الانتخابات النيابية وانتخابات رئاسة المجلس، وبدء إجراءات تشكيل الحكومة يعود الوضع الاقتصادي ليتصدر الاهتمامات بعد إغفال هذا الجانب نتيجة التطورات الحاصلة في المرحلة السابقة، والتي سبقت اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
ولأن لبنان بات موضوعاً تحت المجهر الدولي بكل تفاصيله السياسية أو الاقتصادية، كان لافتاً اهتمام الوصاية الدولية بالشأن الاقتصادي بعد الشأن السياسي وتخصيص اجتماع لمجموعة من سفراء هذه الدول في باريس للبحث في القضية اللبنانية بغياب لبنان، وهو ما أثار المزيد من المخاوف من إمعان الوصاية الدولية بالتدخل بكل الشؤون اللبنانية وفرض إملاءاتها السياسية والاقتصادية على الواقع اللبناني الذي لن تلائمه الوصفات المستوردة والمساعدات المشروطة بتطبيق التزامات وتنازلات لم تعد خافية على أحد، وتغليفها بدعوات لـ" انتهاج لبنان مساراً اقتصادياً يتوافق مع الطروحات الدولية"، أو الحديث "عن مساعدات ستصل إلى لبنان، لكن بعد إجراء الإصلاحات المطلوبة".
وتفيد المعلومات المتداولة بأن ثمة مؤتمرين يجري التحضير لهما في الخارج، ويعقد الأول في آب/ أغسطس أو أيلول/ سبتمبر المقبلين، والثاني في أيلول/ سبتمبر أو تشرين الأول/ أكتوبر المقبلين، على أن يكون المؤتمر الأول ذا طابع سياسي يتعلق بالإصلاحات السياسية والقانونية والإدارية المطلوبة، بما فيها ذاك الشق المتعلق بمتابعة تنفيذ القرار 1559.
أما المؤتمر الثاني وفق هذه المعلومات، فهو اقتصادي يهدف إلى الوصول إلى صياغة ورقة اقتصادية بالتفاهم مع لبنان تحمل رؤية اصلاحية جذرية قد تتناقض مع المرتكزات الحالية الاقتصادية السياسية الحالية.
وتوقع بعض المحللون أن ترتكز هذه الورقة الاقتصادية على اصلاحات قُدمت في السابق ولم تُطبق نتيجة التجاذبات المعروفة سابقاً، وأطلقت وعود سابقة بالالتزام بموجباتها كما حصل عقب "باريس 2" الذي تبخرت مفاعيله.
ويشير المحللون إلى أن الالتزام الجدي هو المطلوب هذه المرة، ولن تنفع معه الالتزامات الكلامية كما في السابق.. والمساعدات والأموال مشروطة بشكل أساسي بالتطبيق الفعلي للإصلاح السياسي والاقتصادي على السواء، وهو ما يمكن أن يثير تجاذبات بين الأطراف السياسية المؤيدة والمعارضة لهذه التوجهات أو تلك، خصوصاً أن الإجراءات المقبلة لا تخلو من القساوة.
ولفتت مصادر متابعة إلى أن حكومة ميقاتي الحالية حاولت أن تلاقي هذه الطروحات عبر ميثاق بيروت، ولكنها لم تتضمن طروحات كاملة، بل عناوين عريضة. فيما أشارت مصادر أخرى إلى أن الورقة الإصلاحية التي طرحها وزير المالية الأسبق فؤاد السنيورة والمرشح حالياً لتولي رئاسة الحكومة، قد تكون القاعدة لتلك الإصلاحات، وهذه الورقة بدورها قيل في حينه إنها كانت تجميعاً لكل الطروحات الإصلاحية التي لم تسمح الظروف السياسية والاقتصادية بتطبيقها خلال توليه سنوات عدة مسؤولية وزارة المالية.
وأمام تصاعد المطالبة بالإصلاح من كل الأفرقاء اللبنانيين وتشديد الوصاية الدولية عليه، يبقى الرهان معقوداً على مدى قدرة الجانب اللبناني على التفاهم والتوافق على البنود الإصلاحية، وإقدامه بجرأة على وضع حد لحال للهريان والفساد المستشري في مرافق ومؤسسات الدولية، وبالتالي إقفال مزاريب الهدر وكبح جماح الدين العام وإيقافه عند نقطة معينة مع مراعاة المنحى الاجتماعي الذي بلغ حداً كبيراً من الخطورة قد لا تأخذه الوصاية الدولية بعين الاعتبار، وهو ما يهدد بأزمات جدية من نوع قد يكون مختلفاً عن الأزمات السابقة، خصوصاً مع تغير التحالفات والتوازنات السياسية.
حسين عبد الله
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018