ارشيف من : 2005-2008
نشرة طلابية لـ"القوات": استحضار شبح الحرب الأهلية ونبش الطروحات التقسيمية
الانتقاد/ لبنانيات ـ العدد 1140ـ 16/12/2005
لم يكد اللبنانيون ينسوا بيان "حراس الأرز" في أيلول الماضي حتى أعادت "نشرة أسبوعية سياسية يصدرها طلاب القوات اللبنانية في كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية الفرع الثاني" تحت عنوان "قضيتنا"، تأجيج المخاوف من تنامي الخطاب الطائفي القائم على نبش كل مفردات ومصطلحات ومفاهيم الحرب الأهلية المشؤومة!
النشرة المذكورة بصفحاتها الأربع توزع في فروع الجامعة اللبنانية، وهي تنهل من المنبع نفسه الذي نهل منه بيان "حراس الأرز".
البيان جرى التنبه اليه، بينما "النشرة" مرّت بين زحمة الأحداث التي شهدتها الساحة اللبنانية ولم يتوقف عندها أحد برغم ما احتوته من أفكار وطروحات خطيرة حسِبَ معظم اللبنانيين أنهم تجاوزوها منذ زمن بعيد. ويبدو أن المتغيرات بدلاً من أن تدفع الزمن الى الأمام، إذ بها تعيده إلى الوراء، وكأن هناك من يحاول إعادة فتح صفحات الماضي أو القراءة في كتاب تاريخ مختلف يصنف المواطنين بين "صانعين للبنان" من طائفة معينة وطوائف أخرى أدخلت قسراً في هذا الكيان، بينما هي في الأصل تابعة للآخرين!
العبارات استفزازية، والمضامين افتراءات، وتطاول على المقامات والمواقع الرسمية. و"تاريخ قومي خاص" يستفز المسلمين بكل طوائفهم، ويعيد إلى الذاكرة الطروحات التقسيمية والفيدرالية والانعزالية التي يزعم أصحابها أنهم تركوها لمصلحة الانفتاح والحوار والتواصل وتوسيع حدود طروحاتهم لتشمل "كل لبنان من النهر الكبير شمالاً حتى الناقورة جنوباً، ومن البحر غرباً حتى الحدود الشرقية".
تؤكد القراءة المتأنية للنشرة هذه المعاني في أكثر من مكان، ويمكن التوقف عند العديد من الفقرات التي تضمنتها.
من الناحية الشكلية يدل رأس النشرة على الجهة المعنية سياسياً، و"قضيتنا" الواقعة بين الأرزة ضمن الدائرة والصليب المشطوب محصورة بطائفة واحدة دون غيرها، وللآخرين قضيتهم "المنحطة والدنيئة" و"التبعية والتخلف والرجعية والعمالة"!
أما من ناحية المضمون فتركز "قضيتنا" في افتتاحيتها على "الحرص على التمثيل المسيحي الحقيقي"، والتشديد على "أننا نريد من يمثلنا فعلاً في المناصب المسيحية في الدولة".. وفي موارد تهجم على موقع الرئاسة وتكرار لعبارة "نريده أن يمثل المسيحيين أولاً"، وليس اللبنانيين مثلاً!
وتفتح النشرة صفحات "من تاريخنا القومي" لتبدأ من الفتح الإسلامي والجزية واستنادها لآيات القرآن الكريم لتكون الخلاصة: "فكان لمسيحيي الشرق قصة عذاب لم تنتهِ فصولها حتى اليوم في معظم الدول ذات الأكثرية الإسلامية"، وبالتالي تحميل الإسلام كرسالة مسؤولية الاضطهاد.. وهناك فرق كبير بين الإسلام والدول والإمارات التي وصفت بالإسلامية ولم تطبق من الرسالة شيئاً.
وخلافاً لما توافق عليه اللبنانيون في وثيقة الطائف والدستور بأن لبنان لجميع أبنائه، تصر النشرة على فكرة أن لبنان صنعه المسيحيون، فيصبح الجبل المسيحي المسمى لبنان هو الجزيرة المسيحية في بحر الإسلام.. وقد أراد المسيحيون فيما بعد توسيع رقعة لبنان ليعتقوا المسيحيين في الجوار من الحكم الذمّي ويمدوا التجربة الجبلية إلى سائر المناطق المتاخمة له. لهذا وجد لبنان، ولهذا يجب أن يستمر ليكون بقعة يتمتع فيها المسيحيون بحقوقهم كاملة. وهذه هي العلاقة بين لبنان والمسيحية الحرّة، فبدون مسيحية حرة لا مبرر لوجود لبنان. فتاريخياً أنشأ المسيحيون لبنان ليستطيعوا أن يحكموا أنفسهم من دون أن يكونوا ذمّيين.
وفي صفحات كتبت بالدماء.. كي لا ننسى.. تورد النشرة تواريخ أحداث شهدتها الحرب اللبنانية، تركز على الفلسطينيين والسوريين لينالوا قسطهم من التحريض المباشر، فتقترن مع صفة "الاعتداء والغزو"، ليصبح في هذه الحالة العدو مشخصاً واضحاً لا لبس فيه.
وتتضمن النشرة عدة أخبار ورد فيها تجريح وتطاول على بعض المواقع الرسمية والرموز السياسية والدينية، تقع تحت طائلة القانون الذي يبدو أنه لم يرها أو يسمع عنها.. وخبراً لافتاً عن إطلاق سراح قياديي "حراس الأرز" بكفالة مالية مع أسف لهذا "الوقت الطويل الذي أخذته هذه القضية، وجريمة هؤلاء أنهم قالوا رأيهم بكل حرية"!
"النشرة" إياها معطوفة على بيان "حراس الأرز" تؤكد جملة حقائق يمكن التوقف عندها:
ـ التقارب الزمني بين الواقعتين واعتمادهما منطقاً واحداً أدانه اللبنانيون، ولكن الوقائع المتتالية تؤكد أن ثمة أرضية خصبة لهذا المنطق، وهو يتفاعل لدى بعض الأوساط مستفيداً من الظروف السياسية والإعلامية الراهنة على الساحة اللبنانية.
ـ الواقعتان تنطلقان من ساحة واحدة فكرياً وعقائدياً وحتى سياسياً، وتحاولان العودة إلى ممارسة العمل السياسي بعد غياب طويل، وإعادة بناء قواعدهما شعبياً، وامتلاكها أدوات للترويج لهذا الخطاب.
ـ انخراط بعض وسائل الإعلام في الترويج لهذا الخطاب، وتظهر تجليات هذا الخطاب في برامج "التوك شو" من خلال توجيه الأسئلة وترك الأمر للمواطنين ليقولوا ما لا يقوله السياسيون، وإسقاط الطائفية على المواقف السياسية لبعض الجهات في لحظات الاشتباك السياسي.
ـ القول بأن هذا الخطاب محصور بفئات محدودة لم يعد واقعياً ومقنعاً، إذ إن انخراط صحافيين ومحامين في تبنيه (واقعة حراس الأرز) والطلاب الجامعيين (النشرة الجامعية) يؤكد اتساع هذه الظاهرة، خصوصاً أن هذه الفئات تملك تأثيراً فاعلاً على المجتمع.
ـ استغلال أجواء الحرية في لبنان واعتبار هذا الخطاب على خطورته جزءاً من حرية التعبير برغم أنه يقوّض أسس السلم الأهلي والعيش المشترك ويثير النعرات الطائفية والتحريض ضد الطوائف الأخرى، تارة تحت حجة أن إحدى الطوائف تحتكر "تأسيس لبنان"، وطوائف أخرى تحتكر "التبعية" و"العمالة" لدول أخرى مجاورة، فضلاً عن إعادة إحياء مقولة "مواطن درجة أولى ومواطن درجة ثانية"!..
ـ تجاهل القوى السياسية والنيابية المسيحية هذه الظاهرة عندما عادت للظهور علناً مع بيان "حراس الأرز" في أيلول الماضي والتعليق باستحياء وحذر، وتعمد الانشغال في قضية موازنة الإدانة مع قضية "أصدقاء حبيب الشرتوني" التي تزامنت وبيان "حراس الأرز"، من دون المسارعة إلى معالجة حقيقية لهذه الظاهرة.
ـ عدم صدور أي موقف من الجهة السياسية الحاضنة لهؤلاء الطلاب ينفي أو يوضح أو يصحح على الأقل، والسكوت في هذه الحالة يعطي شرعية لهذه الطروحات وضوءاً أخضر لاستمرار تصاعد هذا الخطاب التقسيمي.
هذا الخطاب أقل ما يقال فيه أنه يتضمن إثارة للنعرات المذهبية والعنصرية، والحض على النزاع بين الطوائف، ويعرض السلم الأهلي للمخاطر، وكل هذه العناصر الجرمية يحاسب عليها القانون، فهل يستجيب لها القضاء ليقوم بدوره، ويسارع رجال السياسة والحوار لإعادة النظر في بعض المواقف التي شكلت سقفاً لتطور ونمو هذا الخطاب، ليبقى لبنان لجميع أبنائه؟
سعد حميه
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018