ارشيف من : 2005-2008

تنحي ميليس نتيجة لتضارب الوصايات تصريحات أنان وبولتون تكشف التدخل الدولي والأمريكي في الشؤون اللبنانية

تنحي ميليس نتيجة لتضارب الوصايات تصريحات أنان وبولتون تكشف التدخل الدولي والأمريكي في الشؤون اللبنانية

الانتقاد/ محليات ـ العدد 1139ـ 9/12/2005‏

في ظل الحديث عن السيادة والاستقلال والبحث عن نفي "نظام الوصاية" إلى مكانه في التاريخ، يتابع اللبنانيون مسلسلاً جديداً من التدخل المفضوح في أكثر القضايا حساسية بالنسبة اليهم، قضية التحقيق في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.. في حين لم تتوقف حركة السفراء والدبلوماسيين والموفدين من أنحاء العالم، ولا سيما من العواصم الكبرى "المهتمة" بالشأن اللبناني أكثر من اهتمام بعض اللبنانيين أنفسهم في البحث عن الحقيقة التي يزداد تيهانها في دهاليز السياسة.‏

وفي حين ينفي بعض من في بيروت وجود أي تدخل سياسي في الشؤون اللبنانية ـ حتى لو تصاعدت حركة "أصحاب السعادة" ـ يأتي الصراع العلني الذي دار بين الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان والسفير الأميركي في المنظمة الدولية جون بولتون ليكشف بعض ما يجري في كواليس "المتابعة الدولية" للوضع اللبناني.‏

أبرز تطورات التحقيق بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري خلال الفترة الماضية ما شهدته أروقة مجلس الأمن من تدخلات أميركية لاستمرار رئيس لجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس في مهامه حتى إنهاء التحقيق، والاتهامات المتبادلة بين الأمم المتحدة والولايات المتحدة حول التدخل في شؤون التحقيق. غير أن هذه الاتهامات بقيت مغيبة على الساحة اللبنانية إعلامياً وسياسياً وكأن شيئاً لم يكن، وانشغلت الساحة بواقعة واحدة تمحورت طيلة الأيام الماضية حول سؤال واحد هل يغادر ميليس أم يستمر في مهامه، إلى أن حسمت النتيجة بعدم بقائه لأسباب شخصية.‏

تسارعت تطورات التحقيق بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد الحريري بعد سقوط قناع الشاهد السوري هسام هسام وإدلائه بأقوال تناقض شهادته لدى لجنة التحقيق الدولية، واضطرار القاضي ميليس الدفاع عن نفسه، والتأكيد أن الشهادة المذكورة لن تغير مجريات التحقيق.‏

لكن التطورات التي حصلت لاحقاً والمتعلقة باستمرار ميليس أو عدم استمراره في ترؤس لجنة التحقيق، كانت الأبرز، وخصوصاً أنها جاءت عقب مؤتمر الشاهد السوري وتصريحات مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية إبراهيم غمبري حول عدم رغبة ميليس في الاستمرار إلى ما لا نهاية في التحقيق.‏

وبدا واضحاً أن ثمة إرباكاً حصل، وظهرت تجليات هذا الإرباك في العديد من المواقف والتوضيحات التي تولاها ميليس نفسه وديبلوماسيون في الأمم المتحدة تمحورت حول انتهاء عقد عمله، وأنه غير راغب في التجديد لأسباب شخصية، وأن هناك مهمات كبيرة تنتظره في بلاده.‏

وعلى الرغم من هذه التوضيحات إلا أن شبهة ارتباط عدم الرغبة في الاستمرار بما يحصل في التحقيق بقيت حاضرة وبقوة، وبات من الصعب التخلي عن الاستنتاج بأن رغبة القاضي الألماني بالتنحي مرتبطة بأقوال الشاهد السوري شكلاً على الأقل، ومرتبطة بمجريات أخرى جوهرية تتجاوز ميليس ومهمته، ومسرحها الولايات المتحدة الأميركية وتحديداً في نيويورك وفي أروقة مجلس الأمن.‏

ولعل الإشارة العلنية الأولى لما يجري في نيويورك أطلقها ميليس نفسه عندما "استدعى" مجموعة من الصحافيين المختارين بدقة بعد يوم واحد من مؤتمر هسام هسام، وعبر خلاله بشيء من الامتعاض عن ضغوط وتدخلات ما دون أن يسمي الأمور بأسمائها، وليؤكد بأنه لا علاقة له بالتسويات وقال "(...) قد يقال هناك اتفاق تم .(إشارة إلى استجواب الضباط السوريين في فيينا) نحن لم نوقع على أي اتفاق. لم أوقع على أي شيء. ولا علم لي بوجود ضمانات وتطمينات. وبالتالي فإن هذا يعتبر تدخلاً في شؤون التحقيق، ونحن لا شأن لنا بكل ما تردد على هذا الصعيد. ربما تم التوصل إلى حل وسط، "حل توفيقي" على أن يبدأ التحقيق في فيينا(...)".‏

ما عبر عنه ميليس بشكل مبهم، أفصحت عنه وقائع أخرى جرت في نيويورك، وأوضحت بصورة غير مباشرة طبيعة التجاذب الحاصل في مجلس الأمن وفي كواليسه، وظهر احد تجلياته بشكل سافر من قبل المندوب الأميركي الدائم في مجلس الأمن جون بولتون الذي وجه رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان يطالب فيها "بأن يواصل ميليس مهامه الحالية، وإذا لم يوافق فعلى الأمم المتحدة أن تعين بسرعة من يخلفه" واشار إلى أن أفضل من يخلف ميليس هو "نموذج مستنسخ عنه"!‏

هذه الواقعة التي تجاهلها البعض غزيرة المعاني والدلالات، وشاهد جديد على سطوة الولايات المتحدة على مجلس الأمن الذي أصبح أداة طيعة بين يديها، وهذا ما يعرفه الجميع، ولكن الجديد في الأمر هو إفصاح انان عنه وبهذه اللهجة.‏

فقد أفاد صحافيون في نيويورك أن أنان خرج من الاجتماع مع بولتون منزعجاً وقال "إن الأميركيين يتهموننا بالتدخل في قضية التحقيق باغتيال الحريري وفرض بعض الأمور على ميليس، وهذا غير صحيح، هم يفعلون ما يتهموننا به، ويتدخلون يومياً بشؤون الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن".‏

وكانت مصادر أميركية اتهمت أنان بالتدخل لتغيير المكان الذي اقترحه ميليس لاستجواب المسؤولين السوريين وهو مقر المونتفيردي مقترحاً مقر الأمم المتحدة.‏

ويبدو واضحاً أن خروج الديبلوماسية الأميركية عن طورها ومطالبتها العلنية ببقاء ميليس أو استبداله بنموذج مستنسخ عنه نابع من شعورها بأن فرص الإطباق الكامل على سوريا قد تعترضها عراقيل ما في المرحلة المقبلة.‏

واللافت في ما يحصل، أن واشنطن تشارك ميليس انزعاجه من تغيير مكان الاستجواب حيث بدت دمشق متعاونة مع التحقيقات، وهو ما لا تريده واشنطن، وتصر على إظهار عدم تعاونها ليتم إدراج هذا الأمر في التقرير المقبل للتمهيد لفرض عقوبات عليها.‏

الواضح أن ميليس لن يكمل مهمته، وأن المشاورات بدأت للتحضير للبديل، وهذه المشاورات في أقل تقدير لن تختلف عن النموذج الذي قدمه بولتون في التعاطي مع رغبة ميليس في المغادرة، وهذا يعني أن جولة جديدة مفتوحة للتدخل الأميركي في تعيين البديل الذي تريده مستنسخاً عن ميليس لأسباب هي أدرى بها، وهي تتجاوز الكفاءة والحرفية والمهنية العالية.‏

سعد حميه‏

2006-10-30