ارشيف من : 2005-2008
التظاهرة النقابية الأكبر في تاريخ لبنان:الأكثرية الصامتة تعيد رسم سقف الإصلاح وأولوياته
من الأرياف أتوا ... ولكن ليس من ريف دمشق كما قالت الزميلة "المستقبل"! أمر العمليات أخذوه من جيوبهم الفارغة بعدما تآكلت رواتبهم وفقدت قيمتها الشرائية، وفقدان فرص العمل والأمل بمستقبل أفضل. في الحافلات من مختلف المناطق أتوا ليعبروا عن وجعهم. وجع كتموه في صدورهم طيلة عقد ونصف من السياسات الاقتصادية والحديث عن وهم الإصلاح المُتبنى من "الآذاريين" و"الشباطيين". لبنانيون من كل المناطق حملوا هوياتهم وبعضهم أظهرها للكاميرا بعدما استفزهم خطاب الأكثرية الوهمية وتشكيكها الدائم بلبنانيتهم وبأحقية مطالب العمال والمزارعين وأساتذة الجامعة اللبنانية والتعليم الرسمي بكل فروعه. لقد ضاق صدر هؤلاء الذين تظاهروا من تعامل هذه الأكثرية معهم على قاعدة أنهم "الأسياد" والشعب هم العبيد لهم ولمشاريعهم الاقتصادية القائمة على تضخيم الميزانيات والهدر والسرقة. قالوا كلمتهم بالحضور فعلياً في ساحة رياض الصلح في تظاهرة نقابية هي الأكبر في تاريخ لبنان، ليوصلوا ما هو أكبر من الإنذار أو ما يشبه دق ناقوس الخطر بأنه لم يعد مسموحاً بعد اليوم التنازل عن الحقوق المكتسبة وتحميل الطبقات الشعبية وذوي الدخل المحدود وحدهم وزر الهدر والفساد والسرقة، وإعفاء السارقين من المسؤولية ودفع الثمن!
أحرجوهم فأخرجوهم... الأكثرية الشباطية نجحت مرة أخرى في استفزاز الأكثرية الحقيقية الصامتة، وهيأت لها الأرضية الخصبة لنجاح تحركها بعدما دأبت على سياسة إدارة الظهر للهموم المعيشية والاقتصادية والاجتماعية ولم تشتغل إلا في السياسة. تسييس حتى النخاع بعيداً عن علم السياسة وأصولها. الفقر أصبح كلاماً سياسياً يراد منه النيل من الأكثرية! الاعتراض على ضيق الأحوال المعيشية والبطالة وارتفاع سعر المحروقات وانعدام التقديمات الصحية وانهيار الضمان، ممنوع، وإذا ما جرى التلويح بحق التظاهر اعتراضاً ورفضاً فهذا يعني أن المعترضين "يريدون خراب البلد" ولا يريدون حلولاً!
استنفرت الأكثرية الوهمية نفسها ولملمت أشلاءها للتصدي لأمر العمليات السوري لأن "الجالية السورية في لبنان" و"عملاء سوريا" يريدون استغلال المطالب الاجتماعية لإسقاط الحكومة و"ثورة الأرز" التي لم يعد يذكرها أحد إلا اثنان جورج بوش وسمير جعجع!
حاولت الحكومة ومن ورائها الأكثرية تسخيف مطالب هيئة التنسيق النقابية، والزعم بأن التعاقد الوظيفي سُحب من التداول، وبالتالي لا مبرر للتظاهر، بينما هيئة التنسيق قالت إن المطلوب إلغاء التعاقد الوظيفي نهائياً، وإن اعتراضها لا يقتصر عليه، إنما يشمل أيضاً سلة المشاريع الواردة في الورقة الإصلاحية التي تسلب الموظفين والأساتذة حقوقاً مكتسبة سبق وأقرت لهم. أجابت الحكومة بأن الورقة لم يوافق عليها مجلس الوزراء، وبالتالي هذا الاعتراض على شيء غير موجود!
أكثر من ذلك، بلغ الكيد والنفاق السياسي لقوى 14 شباط ذروته بالادعاء أنهم يرفضون التعاقد الوظيفي ويؤيدون مطالب الأساتذة، ولكن نكاية بقوى 8 آذار لن يقبلوا بالتظاهر لأن المطالب مسيسة، وربما ينزلون إلى الشارع قبل حزب الله! وعندما لم تنفع هذه المحاولات عمدوا إلى الإيعاز لبعض القوى النقابية التابعة لهم للخروج عن الاجماع لإحداث انقسام داخل هيئة التنسيق النقابية لإضعاف التحرك وتوهينه، وبالتالي ضربه في مهده!
هذا الأداء السلطوي ارتطم مرة جديدة بالحائط المسدود، وأخفقت قوى 14 شباط مجدداً بعد سلسلة طويلة من الإخفاقات نتيجة خفّتها السياسية، وعدم قدرتها على قراءة الواقع واتخاذ القرارات المناسبة لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي. لقد وضعت الحكومة نفسها والقوى التي تقف خلفها أمام مواجهة صعبة في المرحلة المقبلة، جوهرها الأساسي الوضع الاقتصادي ـ الاجتماعي، وكيفية معالجته، ووضعت الورقة الإصلاحية تحت مبضع التشريح والتفنيد، وربما التمزيق كما ألمح رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، لأن المتظاهرين حددوا السقف الذي على الحكومة أن تلتزم به في مشروع الإصلاح، ولن ينفعها رمي المسؤولية على الحركة النقابية والقوى السياسية المعارضة لها لتحديد البدائل وتقديم الاقتراحات، لأن هذا الأمر يبقى من مسؤوليتها أولاً، والدخول في حوار جدي للولوج إلى الإصلاح الحقيقي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
وعلى المقلب الآخر، تمكنت القوى المؤيدة لتحرك هيئة التنسيق النقابية أن تسجل مجموعة نقاط إيجابية ميدانياً وسياسياً أمّنت نجاح التظاهرة، وأربكت قوى الأكثرية التي أصبحت أمام واقع جديد لا بد من مراعاته لدرء خطر الوقوع بين كماشتي الضغط الشعبي من جهة، والإصلاحات المستوردة عبر الوصفات الجاهزة من المؤسسات المالية الدولية من جهة أخرى، وبالتالي نشوء تعقيدات جديدة قد تجعل مؤتمر "بيروت واحد" في مهب الريح.
ولعل أكثر ما أزعج الأكثرية الوهمية، هو أن القوى التي أيدت هذا التحرك، لاقت أحاسيس ومعاناة الأكثرية الصامتة التي يبدو أن أولوياتها المعيشية والاقتصادية هي الأساس، ما يضعها في موقع حرج ستزداد وطأته في المرحلة المقبلة إذا ما اختارت هذه القوى توسيع مروحة المطالب لتشمل البنود الأخرى الواردة في الورقة الإصلاحية التي تتضمن زيادة الضرائب ورفع الدعم عن السلع الحيوية للمواطن، كالبنزين والقمح، وتخصيص بعض القطاعات الخدماتية المربحة كالخلوي.
التظاهرة الأخيرة مهما قيل عنها، لا بد أنها ظهّرت بشكل واضح الاعتراض على المفاهيم المعتمدة في الورقة الإصلاحية التي لا تعير الجانب الاجتماعي اهتماماً، وتركز على المسائل المالية من دون الخوض في تشجيع وتفعيل قطاعات الإنتاج الاقتصادية والزراعية من خلال تحفيز الاستثمارات.
لقد بات من الواضح أن التظاهرة خلقت فرزاً جديداً بين رؤيتين اقتصاديتين للخروج من الأزمة، وربما يحكم هذا الفرز العلاقة بين الحكومة والقوى التي تقف خلفها، والقوى الأخرى المناهضة، ليعود للمأزق الاقتصادي أولويته بعدما غيب قسراً لأهداف باتت معلومة لدى الجميع.
الفرصة أمام الحكومة باتت أضيق، ويقع على عاتقها المسارعة إلى تصحيح أدائها الاقتصادي والإصلاحي لنزع فتيل الانفجار قبل فوات الأوان، وقبل أن يأكل الجياع حكامهم كما قال رئيس التيار الوطني الحر العماد ميشال عون.
سعد حميه
الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1161 ـ 12 أيار/مايو 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018