ارشيف من : 2005-2008

العدد السنوي//الرهانات الإسرائيلية على المخطط الأميركي في لبنان:نهاية السنة.. بداية التراجع

العدد السنوي//الرهانات الإسرائيلية على المخطط الأميركي في لبنان:نهاية السنة.. بداية التراجع

كما يصح اعتبار العديد من الاحداث والتطورات السياسية والامنية محطات مفصلية في حركة الواقع السياسي، يتمايز ما قبلها عما بعدها، لما تنطوي عليه من آثار سياسية واستراتيجية… كذلك قد ينسحب هذا التوصيف على بعض الفترات الزمنية التي تتخللها تطورات استراتيجية في محتواها أو نتائجها، بحيث يتمايز ما قبلها عما تخللها وما قد يليها…‏

فهل يصح إسقاط ما تقدم على العام 2005 من زاوية النتائج المرتقبة، والمؤملة من قبل كيان العدو الإسرائيلي للتطورات التي شهدتها الساحة اللبنانية من تطورات سياسية وأمنية بحيث يصح اعتبار أن ما تحقق أو قد يتحقق من نتائج لتطورات العام 2005 حد فاصل في حركة الصراع مع العدو؟ مع الإشارة إلى أن ما سبق هذه الفترة الزمنية من تطورات كان استراتيجي المحتوى وتاريخي النتائج، خاصة في ما يتعلق بتحرير الأراضي اللبنانية المحتلة (باستثناء مزارع شبعا) في أيار عام 2000 وما تلاها من معادلات توازن الردع بين المقاومة الإسلامية والجيش الإسرائيلي، وما ترتب على ذلك من تداعيات اقليمية وفلسطينية تحديداً؟…‏

لئن تعددت الرؤى في لبنان حول تحديد نقطة انطلاق المسار السياسي الجديد الذي شهده لبنان وسوريا خلال العام 2005 كل من موقعه وخلفياته، لما لهذا التحديد من أهمية في بلورة رؤية الواقع الحاضر وأثره في استشراف مسارات المستقبل، فإن رؤية الكيان الإسرائيلي واضحة ومحددة ولا يوجد إزاءها أي نوع من أنواع التعدد الذي عادة ما نشهده حول مختلف القضايا التي تخضع للتجاذبات السياسية بين مختلف ألوان الطيف الإسرائيلي. فمن المسلّمات الإسرائيلية أن ما جرى ويجري في لبنان هو نتيجة للقرار 1559 الذي بدوره كان تتويجاً لمسار سياسي نضج وتبلور داخل الإدارتين الأميركية والفرنسية، وكان لـ"إسرائيل" ـ وفقاً لما أعلنته ويشهد به محتوى القرار والنتائج المؤملة منه ـ دورها الأساسي في هذا المجال، مدفوعاً بتداعيات جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.‏

وكما في كل محطة… تشهدها الساحة اللبنانية أو العربية أو الدولية، فإن معيار مقاربة العدو لها تكمن في ما نقله "عوفير شيلح" في صحيفة "يديعوت احرونوت" (1/3/2005) إن كان ما يحدث "حسناً لليهود أم لا"؟. وفي محاولة للإجابة عن السؤال المرتبط بالضغط الدولي على سوريا وأهدافه، عرض "شيلح" رؤية وموقف القيادة السياسية في "إسرائيل" المؤيد للضغط الدولي على سوريا، والذي يُعبر عنه بالجملة بمطلب الانسحاب من لبنان على أساس أن "خروج السوريين من لبنان سيوجه الأنظار في لبنان وخارجه نحو حزب الله الذي سيغدو الهدف التالي لتلك الجهات التي عملت على طرد سوريا من لبنان بمساعدة وتشجيع من الغرب".‏

إلى جانب الوضوح في الموقف والأهداف التي تبنتها القيادة الرسمية للكيان الإسرائيلي، كان هناك تعدد في الآراء حول تداعيات إخراج السوريين من لبنان، وتراوحت هذه الآراء بين رأي يرى بأن انسحاباً كهذا قد لا يجدي نفعا بالنسبة لـ"إسرائيل" انطلاقا من التجارب المرة في مواجهة المقاومة، وأيد هذا الرأي رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي وغيره، فيما الرأي الآخر تبنى رؤية أن الانسحاب السوري من لبنان سيؤدي إلى تحقيق أهداف "إسرائيل" بتطويق وإسقاط المقاومة، وما قد يترتب عليه من نتائج سياسية لبنانيا وفلسطينيا وعربيا...‏

وحسم الجدل لمصلحة الرأي الثاني الذي عمل على إقناع الدول العظمى للسير في هذا الاتجاه كما صرح وزير الخارجية سيلفان شالوم، في أحد حواراته مع الإذاعة الإسرائيلية "بأن لبنان المحرر من الاحتلال السوري سيوقع اتفاق سلام مع إسرائيل"، وهو ما عكس وجود رؤية وسعي إسرائيلي وأميركي إلى قلب موازين القوى على الساحة اللبنانية لمصلحة فئة تتقاطع وتتلاقى مصالحها الذاتية مع عقد تسوية سياسية منفردة مع العدو وذلك عبر "عزل المتطرفين... سوريا وإيران وحزب الله وحماس والجهاد الإسلامي". بل وذهب شالوم إلى القول بأن ما تشهده الساحة اللبنانية "أهم تطور يحدث وهو أمر كنا نأمله".‏

ومع انسحاب الجيش السوري ارتفعت رهانات العدو حول إمكانية تحقيق الأهداف المؤملة من القرار 1559 عبر ترقب انهيار قوى المقاومة المتحالفة مع سوريا، لكن شيئا من هذا لم يحصل، وهو ما وشت به التطورات السياسية الداخلية المتوالية من مسيرة 8 آذار إلى نتائج الانتخابات النيابية، وما أظهرته من التفاف شعبي كاسح حول خيار المقاومة انعكس معادلات سياسية مختلفة كلياً عما كان يُخطط له.‏

الرهانات الدولية ـ الاميركية والإسرائيلية، لم تنعدم بل أخذت أشكالا أخرى، وبدأ الحديث عن مسارات تتحرك على الساحة اللبنانية بالاتجاه المؤمل إسرائيليا، وهو ما عبّر عنه رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الجنرال "اهارون زئيفي" (فركش) فقال: "إن ما جرى حتى الآن من تطورات على الساحة اللبنانية، هي تطورات مريحة لإسرائيل" انطلاقا من أن "الحلف بين حكومة لبنان، حزب الله وسوريا انفرط عقده مع خروج القوات السورية من لبنان"، لأن "الإرهاب الجهادي مُطارد، بل ومُكره على كبح نفسه". ولكن برغم تقديره في حينه أن "حزب الله (أصبح) مكبوح عن المبادرة" إلا انه اعتبر انه ما زال يملك قدرة الردع، لكن كان هناك تقدير إسرائيلي بأن التطورات الداخلية المستقبلية وتأثيرها على حزب الله سوف تساهم في "نزع الشرعية" عن عمليات المقاومة، وبأن حزب الله يدرك ذلك. وذهب هذا التقدير إلى حد الاعتبار بأن سلاح حزب الله سيصدأ مع السنوات جراء الضغوط الداخلية، وان السبيل الوحيد الذي يمكن أن تتحقق عبره هذه النتيجة هو "فقط عبر الداخل (اللبناني) يمكن لهذا أن ينجح"، مستبعدا قدرة التدخل الخارجي على تحقيقها لأنه "يثيره، ويعزز تمسك حزب الله بالسلاح كما قد يؤدي ذلك إلى انتهاء فترة الكبح..."، كما اعتبر "فركش" أن التطورات السياسية في لبنان تضمن بقاء حزب الله في حالة ضعف "إذا ما واصلنا التصرف قبالته بذكاء". ووصل الأمر إلى حد بلورة المعادلة التي تؤمن بها المؤسسة الاستخبارية في "إسرائيل" والتي يمكن من خلالها إسقاط المقاومة "عبر دفع حزب الله إلى الشعور بأن مواصلة نهجه الجهادي سيُعرِّض مستقبله في لبنان للخطر، عندها سيتجه أكثر فأكثر للتحول إلى حزب سياسي...".‏

وفي السياق نفسه اعتبر أيضا وزير خارجية العدو سيلفان شالوم أن إخراج النشاطات (الإرهابية حسب وصفه) التي يقوم بها حزب الله من المعادلة "أمر جوهري جدا وذو تأثير إيجابي سواء بالنسبة للسياسة اللبنانية نفسها أو بالنسبة لإمكانية تحقيق السلام على الحدود الشمالية".‏

لكن هذه الرهانات بدأت تخبو عندما دلّ مسار الأحداث الداخلية في لبنان بأنه يسير عكس التقديرات الإسرائيلية أو على الأقل ليس بالسرعة التي كان يأملها، وبدت المقاومة "رقما صعبا" في المعادلة الداخلية والإقليمية لا يمكن القفز فوقها. وبشكل موازٍ بدأت التقديرات تتحدث عن مسارات طويلة قد تحقق الأهداف المؤملة، بعدما كان الشعور الإسرائيلي السائد سابقا وحتى بالنسبة لبعض اللبنانيين بأن تنفيذ بنود الـ1559 بات قاب قوسين أو أدنى.‏

وفي هذا المجال كان رئيس حكومة العدو ارييل شارون واضحا في هذا التوصيف عندما أشار إلى أن "لبنان... يمر بتغييرات بعيدة المدى باتجاه الاعتدال"، وفق المفهوم الإسرائيلي.‏

وبعد صدور القرار 1636 في مجلس الأمن بناءً على تقرير ميليس بدا أن هناك محاولة التفاف على المقاومة عبر الضغط على سوريا. وهلل الإسرائيليون للقرار وذهبوا بعيداً في تحليل نتائجه ودلائله إلى حد دفع المؤسسة الأمنية والسياسية في الكيان الإسرائيلي إلى استعراض السيناريوهات، ومحاولة تحديد ما هو أكثر ملاءمة لمصلحتها: بقاء النظام السوري أم إسقاطه؟‏

وتعددت الآراء داخل المؤسسة العسكرية بين مؤيد بحماسة لتغيير النظام! انطلاقاً من أن أي نظام بديل لن يكون "أسوأ" لإسرائيل مما هو عليه الآن، وبين معارض بقلق! انطلاقا من أن البديل هو الفوضى الأمنية التي ستطال الكيان الإسرائيلي عبر الجولان وسيطرة "الاصوليين". وبين هذا الرأي وذاك خلصت المشاورات التي أجراها شارون مع المؤسسات والشخصيات ذات الصلة والتي شارك فيها وزير الخارجية، وزير الدفاع، قادة اجهزة الاستخبارات ورئيس مجلس الأمن القومي... وفقا لما نقله شمعون شيفر في صحيفة "يديعوت احرونوت"، إلى أن "إسرائيل" تعتبر أن "إزاحة بشار الأسد من شأنها أن تزعزع المنطقة وتؤدي إلى تسلم عناصر إسلامية متطرفة للحكم، وهؤلاء سيدفعون إلى التصعيد على الحدود الإسرائيلية ـ السورية..". وبالتالي ينبغي إبقاء النظام السوري تحت الضغط وإضعافه".‏

إلى جانب هذه الرؤية الإسرائيلية كان التقدير السائد في واشنطن (هآرتس/13/12/2005) هو انه كلما نُشرت تفاصيل أكثر من التحقيق أمام الجمهور في لبنان، كلما زادت المعارضة لأي جهة في لبنان متحالفة مع سوريا، سواء كانت شخصية أم حزباً". وذلك بهدف "فصل سوريا كلياً عن لبنان، وصولاً إلى التنفيذ الكامل لقرار مجلس الامن الدولي 1559".‏

وتزامنت هذه الرؤية السياسية مع طلب إسرائيلي من الولايات المتحدة عبر منتدى "الحوار الاستراتيجي" القائم بينهما بـ"الضغط على الحكومة اللبنانية لتنفيذ ما تبقّى من قرار مجلس الأمن 1559 والتي تتعلق بنشر الجيش اللبناني في الجنوب وتجريد حزب الله والميليشيات الفلسطينية من السلاح…"، وبدا واضحا أن هذا الطلب كان مبنيا على رؤية أن "حزب الله في وضع ضعيف، وكل الاتجاهات ضده، ويطالبونه بنزع سلاحه، وإيقاف الكفاح المسلح، ويطلبون منه أن يركز على الجانب السياسي (فقط)" (التلفزيون الإسرائيلي/ قناة الكنيست/ يواف شتيرن).‏

لكن عجز الولايات المتحدة عن إحداث التغيير في موازين القوى المحلية لمصلحة مخططها في لبنان، وسقوط الوهم الإسرائيلي بحؤول التطورات الداخلية دون تأدية المقاومة واجبها ودورها في التصدي لاعتداءات العدو، واستكمال عملية التحرير وحماية لبنان، وهو ما ظهر جليا في العملية النوعية الأخيرة التي نفذتها المقاومة الإسلامية على طول الحدود مع فلسطين… وبروز مؤشرات سياسية دولية وإقليمية تظهر أن مسار المستقبل يختلف كثيرا عما توهمه العدو والولايات المتحدة وبعض الجهات في لبنان… وبدا واضحا أن الرهانات الإسرائيلية التي بلغت الذروة في بداية العام 2005 لإسقاط خيار المقاومة، بدأت تتراجع مع نهايته، واتضح أن المقاومة أكثر تجذراً ورسوخا مما تصوره كثيرون في لبنان وخارجه، وان لبنان العربي والمقاوم ما قبل 2005 سيكون هو نفسه ما بعد 2005.‏

جهاد حيدر‏

الانتقاد العدد 1142 ـ 30 كانون الاول/ ديسمبر 2005‏

2006-10-30