ارشيف من : 2005-2008

تظاهرة الأشرفية: البلد في فوّهة البركان الطائفي

تظاهرة الأشرفية: البلد في فوّهة البركان الطائفي

بين السيئ والأسوأ اختارت الحكومة ما رأت أنه الأقل سوءاً في التعامل مع ما حصل في الأشرفية من أحداث خطيرة يوم الأحد الماضي، وذلك بعد أن عجزت عن تجنيب المنطقة ولبنان هذه الكأس المرّة.‏

ما اعترفت به الحكومة أبت الموالاة أن تقرّ به، فاستمرت في لعب الورقة الخارجية ووجهت الاتهام إلى سوريا وفلسطين و"دولة إقليمية غير عربية"! وبادرت إلى الاستنجاد بمجلس الأمن الدولي، ولم تغفل هذه المرة بعض التغطية بقناع عربي عبر توجيه الدعوة الى الجامعة العربية لوضع يدها على هذه القضية!..‏

لم يستطع الدخان المتصاعد من حريق مبنى التباريس في منطقة الأشرفية في قلب العاصمة اللبنانية بيروت، أن يخفي حقائق عديدة، فلجأت قوى 14 آذار إزاء ما حصل إلى إثارة أدخنة "مختلفة الألوان"، عسى تستطيع من خلالها حرف أنظار اللبنانيين عن حقيقة ما حصل وعن ضرورة معالجته، كي لا يتوغل لبنان في نفق الأخطار الذي تقوده هذه القوى إلى داخله.‏

المسيرة التي نُظمت كي تكون تعبيراً عن الاحتجاج للإساءة الى الرسول (ص)، أراد لها البعض أن توجه أكثر من رسالة وفي أكثر من اتجاه محلي وإقليمي ودولي، فاختلطت الحسابات الدينية التي اعتمدها المنظمون مع حسابات سياسية بالغة التعقيد تتعلق بتوجيه رسائل لأطراف لبنانية أخرى، فكان اصطدام الإرادات والتوجهات الخطوة الأولى في اتجاه فقدان التظاهرة لتماسكها، ومن ثم فقدان منظميها السيطرة عليها.‏

وإذا كانت منطقة الأشرفية ذات الظروف السياسية والطائفية الحساسة المسرح الأولي للتظاهرة، فإن المراقبين رأوا في ما حصل من ممارسات خرجت عن كل موازين التعقل والوعي، ترجمة لعوامل طائفية تغذيها جهات متطرفة تتحرك بشكل قوي على الساحة كتيارات شعبية.. لكن يبدو أن المعنيين في البلاد لا يقدرون حقيقة حجمها بشكل صحيح، خصوصاً أن هذه الجهات تنتشر في مختلف المناطق في الوقت الذي تبدو السيطرة السياسية لتيار المستقبل.‏

ويرى هؤلاء المحللون أن اجتماع إرادات عدة منحت هذه الجهات فرصتها التي نشأت من زخم الحدث التراجيدي باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وراحت تعمل على تعزيز وجودها الحقيقي في الشارع.. وفي الخفاء.‏

كل هذه العوامل المشبعة بالتشنج والاحتقان والتحفز للفعل، كان يقابلها فراغ مدوٍّ من السلطات الرسمية الغارقة على ما يبدو في أقصى درجات التراخي مع الحدث، ربما لاعتقاد المعنيين فيها أن هذه التظاهرة "لنا"، وبالتالي تنتفي الحاجة للمواكبة أو التحضير الأمني، بعيداً عن الحديث عن عدم قدرة القوى الأمنية على حشد ما يكفي لمجابهة ما هو غير متوقع، فيما كانت جاهزة تماماً لقمع عدد قليل من الطلاب أمام السراي الحكومي، ولتحضير حائط دفاع متين جداً أمام السفارة الأميركية في عوكر يوم تظاهر الشباب اللبناني تنديداً بتدخل الإدارة الأميركية في الشؤون اللبنانية. إضافة إلى معلومات أعلنتها أكثر من جهة عن وجود عدة قطع عسكرية على أهبة الاستعداد للتدخل، إلا أن الأوامر لم تُعطَ لها للقيام بواجبها!..‏

ولمّا "وقعت الواقعة" كانت الحكومة أمام خياري السيئ والأسوأ، أي إما ترك المتظاهرين يعيثون فساداً في الأشرفية، وإما إطلاق النار عليهم وقتل العشرات وربما المئات منهم، فكان اختيار السيئ الذي هدد بحصول الأكثر سوءاً وإدخال لبنان في نفق المجهول لو أن احتكاكاً حقيقياً حصل بين أبناء المنطقة والذين يتظاهرون فيها.‏

هذا المسلسل من الأخطاء والمصادفات غير السعيدة ومحطات سوء التفاهم بين المعنيين السياسيين والأمنيين بما جرى ـ وأحد وجوهه قول سمير جعجع إن هؤلاء المتظاهرين "حلفاؤنا" ويجب عدم التعرض لهم ـ أنتج وضعاً مأساوياً كان يمكن له أن يفجر أزمة سياسية وأمنية كبرى في العاصمة وحتى على امتداد لبنان مع تحرك أكثر من "جبهة" أمنية، انطلاقاً من الكحالة وسن الفيل ووصولاً إلى مناطق أخرى.. ربما الناعمة أيضاً، لولا التحرك المتأخر ولكن الحاسم للقوى الأمنية لاحتواء رد الفعل الشعبي على التعرض للممتلكات العامة والخاصة، وما قيل عن انتهاك مقدسات دينية في قلب العاصمة، وتحرك المرجعيات الدينية والروحية والسياسية لاحتواء مضاعفات ما حصل وحصر أضراره.‏

وإذا كانت "قطبة" يوم الأحد مرّت على خير من دون أن يعني ذلك محو أثرها الأسود، فإن جماعة 14 آذار المسؤولين عن توفير مناخات الخلل نقلوا المعركة إلى خارج العاصمة من خلال تحميل مناطق محددة ـ إضافة للقوى الخارجية ـ مسؤولية الأزمة، و"اختراع" معلومات عن وجود معسكرات تدريب للقوى الأصولية المسؤولة عن أعمال التكسير في مناطق شمالية، ودخول جموع بشكل غير شرعي من سوريا بينها عناصر متطرفة أردنية، وغير ذلك من تهم ضرب بها وزير الداخلية الجديد ـ بالوكالة ـ أحمد فتفت عُرض الحائط، فيما اعتبر تكذيباً مباشراً لكل ما أورده انقلابيو 14 آذار في بيانهم العسكري الذي أذاعوه إثر لقاء عُقد في منزل النائب وليد جنبلاط.‏

ما حصل يوم الأحد الماضي في الأشرفية وما تلاه من بيانات ومن اتهامات واتهامات مضادة ومؤتمرات صحافية، أظهر أن البعض أراد حرف النظر عن معالجة مشكلة حقيقية بات لبنان يقف أمامها، وهي مشكلة تفلّت العصبيات المذهبية والطائفية من كل عقال، فيما يبدو أن المعنيين الحقيقيين بمستقبل الشعب والدولة في لبنان، يعيدون الأمور إلى نصابها من خلال تفعيل الحوار الوطني وإخماد المنطق الطائفي في التعامل مع القضايا، تمهيداً لاستئصاله بشكل نهائي.‏

محمود ريّا‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1148 ـ 10 شباط/فبراير 2006‏

2006-10-30