ارشيف من : 2005-2008
تقرير برامرتز:مهنية أكثر وتسييس أقل.. وإعادة الاعتبار لكل الاحتمالات
لم تكن النبرة التي صاغ بها رئيس لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري القاضي البلجيكي سيرج برامرتز، تقريره الأول المرفوع إلى أمين عام الأمم المتحدة كوفي أنان، مغايرة لطريقة تعامله مع الملفّ برمّته منذ أن تسلّم مسؤوليته رسمياً في شهر كانون الأول/ ديسمبر من العام 2005 خلفاً للألماني ديتليف ميليس، فكلّ من عرفه عن قرب واجتمع به في غير مكان بشأن حيثيات القضية، خرج عن قناعة تامة بأنّه رجل قانوني جاء ليكمل مهمة كشف الحقيقة.
وجاء تقرير برامرتز وفق وصف عدد من الخبراء القانونيين كعمل نقدي وموضوعي لحيثيات القضية ومعطى قانوني جديد، خصوصاً أنّه أشار في الفقرة الثامنة عشرة إلى وجود مناخات جديدة ومسارات مختلفة عن تلك التي اعتمدت في المرحلة السابقة، وهو ما اعتبره بعض المراقبين تلميحا إلى الاعترافات التي أدلى بها أعضاء من شبكة تنظيم "القاعدة" موقوفون في لبنان منذ أربعة أشهر.
هذا من ناحية النهج، أما من حيث الأسلوب، فيقول أحد الحقوقيين لـ"الانتقاد"، إنّه لا بدّ من الإشارة إلى أنّ برامرتز نوّه في الفقرة التسعين من تقريره وما يليها بتعاون سوريا مع اللجنة، إنّما من يتمعّن في ما اعتبره تعاوناً يرى أنّه مجرّد وعد بالتعاون لم يرقَ بتاريخ تنظيم هذا التقرير إلى درجة التعاون، لأنّه لم يحصل بعد، إنما بدلاً من نعت سوريا بأنّها غير متعاونة، اكتفى برامرتز بالوعد السوري بالتعاون من أجل أن يعنون تصرف سوريا بالمتعاون، وهذا ما يفسّر إشادة المراجع السورية بهذا التقرير.. فبدلاً من استعداء سوريا في الأساس، اتخذ برامرتز موقفاً ذكياً، وهذا ما يَعِد بتقدّم سريع على المسار السوري.
ويعدّد هذا الحقوقي في سياق كلامه الشواهد الآتية:
ـ أفرد التقرير مساحات مهمة للأمور التنظيمية الداخلية في عمل اللجنة، فأكّد في الفقرة الحادية عشرة أنّ عدداً كبيراً من أعضاء اللجنة السابقة تركوا عملهم وكانوا من الطاقم البوليسي واستبدل بهم محقّقون ينتمون إلى الطاقم القانوني والتحليلي، في إشارة محدّدة أيضاً إلى تغيير الأسلوب والمنهج في التعاطي مع هذه القضية الحسّاسة.
ـ خلافاً للتقريرين السابقين، فقد تجنّب برامرتز ذكر أسماء أشخاص محدّدين متحاشياً التشهير بهم ومحافظاً في الوقت نفسه، إلى حدّ ما، على سرّية التحقيق. وقد جاء تقريره في هذا السياق خالياً من اتهامات مباشرة إلى أي جهة او أي شخص مع استثناء وحيد يتعلّق باللواء جميل السيد في الفقرة الأربعين من تقريره الذي صيغ بشكل ملطّف عما تضمّنه تقرير ميليس الثاني لجهة الصندوق غير "الشرعي المزعوم"، الذي كان يديره اللواء السيد في المديرية العامة للامن العام، من علاقة محتملة لهذا الصندوق بتمويل جريمة 14 شباط/ فبراير، فتناوله برامرتز بشكل أكثر مهنية وأقل تسييساً، إذ إنّه لم يعد يصف الصندوق بأنه غير شرعي، ولم يعد يشير إلى علاقة لهذا الصندوق بتمويل الجريمة، مكتفياً بالقول انّ التحقيق يجري على تقاطع بين هذا الصندوق مع مسارات أخرى من التحقيق. وقال إنّ هذا المسار سوف يبحث به في المستقبل إذا ما رأى ذلك ضرورياً. وباستثناء هذه الإشارة إلى اللواء السيد جاء التقرير خالياً من أي اسم.
ويشير الخبراء القانونيون إلى أنّ صندوق الأمن العام المذكور شرعي وقانوني ولا توجد فيه مخالفات، فقد نصّت عليه مقرّرات مجلس الوزراء. كما أنّ جميع الواردات والنفقات المالية موثّقة ومعروفة المصدر ومكان الصرف، وهو مال من الأمن العام وصرف داخل هذه المؤسسة التي أخرجها السيّد من الفوضى والسمسرات وجعلها مؤسسة رسمية منتجة بشهادة جميع القوى والقيادات والشخصيات السياسية.
ـ تكتّم التقرير، وهو على حقّ، على المسارات الأخرى التي ينوي سلوكها، وعلى المعطيات الجديدة لديه، تاركاً الأمر إلى التطورات المستقبلية.
ـ قال التقرير إنّه سوف يركّز على طبقة من الأشخاص لعبت دوراً بين من أصدر القرار بارتكاب جريمة الاغتيال ومن نفّذها، وإنّه سوف يبحث عن هؤلاء لكي يحدّد هويتهم وشخصيتهم ودورهم، لأنّه لا يتصوّر بهذا النوع من الجرائم ألا يكون هنالك من تولّى التنسيق والتسهيل للمنفّذين الحقيقيين.
ويسأل أحد القانونيين: لماذا لا تتم مساءلة مسؤولي "بنك المدينة" الموجودين في لبنان وخارجه في بعض العواصم العربية والقارة الأميركية عن "أسرار" هذا البنك وإمكانية استفادة قتلة الحريري من أمواله، بدلاً من انتظار تسليم الحكومة البرازيلية رنا قليلات التي لم تكن المسؤولة الأولى في هذا المصرف؟ والغريب أنّ بعضا من قوى 14 آذار/ مارس عملت على تهريب وتسهيل فرار أحد أصحاب البنك إلى كندا في العام الفائت، وهو مطلوب للقضاء ولم يتحدّث أحد عنه، إذ انصبّ الكلام كلّه على قليلات، وكلاهما "خزنة أسرار" مربحة لمن يريد كشف حقيقة قتلة الشهيد الحريري.
وبعد قرار برامرتز بإعادة تصويب بوصلة التحقيقات بالشكل المناسب وفي الاتجاه الصحيح ومراجعة "ودائع" المعلومات المفخّخة والملغومة التي تركها ميليس بين يديه، صار من الواجب بحسب أوساط مقرّبة من عائلات الضبّاط الأربعة، إطلاق سراح هؤلاء، أي اللواءين جميل السيد وعلي الحاج والعميدين ريمون عازار ومصطفى حمدان، وإلا فإنّ بقاءهم خلف القضبان في سجن "رومية" المركزي هو "اعتقال سياسي" يجب تصحيحه حفظاً لدماء الشهيد الحريري.
علي الموسوي
الانتقاد/مقالات ـ العدد 1153 ـ 17 آذار/مارس 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018