ارشيف من : 2005-2008

الألغام الإسرائيلية في الأراضي اللبنانية:سرطان كامن فتك بمئة شهيد منذ التحرير

الألغام الإسرائيلية في الأراضي اللبنانية:سرطان كامن فتك بمئة شهيد منذ التحرير

ستة أعوام تكاد تمضي على دحر الاحتلال الصهيوني عن جزء كبير من الأراضي اللبنانية باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا ولا تزال هناك أراضٍ لبنانية لما تطأها قدم اللبناني، وإذا ما وطئتها هذه القدم بترت! هذه الحقيقة المؤلمة باتت سرطاناً كامناً يطل برأسه بين فترة وأخرى، مختطفاً ضحية جديدة قد تكون مواطناً وقع صدفة في حقل ألغام زرعه الاحتلال، أو قطيعاً من الماشية "شرد" إلى حقل غير آمن وتكون النتيجة نفوق عدد من رؤوس الماشية! لائحة ضحايا هذا السرطان منذ 25 أيار العام 2000 حتى اليوم تضم أكثر من مئة شهيد ونحو 375 جريحاً حسب الإحصائيات الرسمية، وكان آخرها انفجار لغم قبل اسبوع قرب بلدة العباسية المحاصرة بحقول الألغام ونفوق احد رؤوس البقر، وقبلها قضى المواطن علي عيسى في بلدة رامية جراء انفجار لغم في حقل زراعي كان يعمل فيه.‏

على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلت لتنظيف الحقول والوديان ومحيط بعض مواقع الاحتلال سابقاً من حقول الألغام، تبقى هذه المشكلة حاضرة بقوة، وما إن ينساها اللبناني حتى تعود وتقتحم همومه مع دوي انفجار لغم جديد ووقوع ضحية جديدة. ولا يزال حجم هذه المشكلة كبيراً حيث قدرت الأمم المتحدة حجم هذه الألغام بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي بما يتراوح بين ثلاثمئة وخمسين ألف (350000 ) وأربعمئة ألف (400000) موزعة بين ألغام فردية وأخرى مضادة للدروع زرعها الاحتلال في المنطقة الممتدة من الناقورة حتى شبعا وسفوح جبل الشيخ ومحيط الغجر والعباسية.‏

وقد وزعت هذه الألغام بطريقة عشوائية، حيث إن القسم الأكبر منها مزروع في أماكن غير مسيجة وغير محددة، دون لافتات تشير إلى وجودها. وبرغم العديد من المطالبات والاتصالات الدولية وإثارة هذا الموضوع مع المنظمات الدولية وممثلي هيئة الأمم المتحدة إلا أن الاحتلال بقي مصراً على عدم تسليم جميع خرائط حقول الألغام لدرء الخطر عن المواطن اللبناني.‏

مسيرة نزع الألغام لاستكمال التحرير مستمرة ولكنها تسير ببطء نظراً للتعقيدات الميدانية والمخاطر المترتبة على عملية انتزاعها، وتشير المعطيات الميدانية إلى أن هذه العملية قد تستغرق وقتاً طويلاً، وخصوصاً أنه بعد انقضاء قرابة الخمس سنوات جرى نزع ما يقارب 67 ألف لغم ونيف برغم تعدد الفرق لإنجاز هذه العملية. واستطاعت الكتيبة الأوكرانية العاملة في إطار القوة الدولية في الجنوب بعديدها وعتادها أن تنزع نحو 6000 لغم فقط من مناطق الناقورة والبياضة والمناطق القريبة مما يسمى الخط الأزرق الدولي وفق تقديرات المكتب الإعلامي لقوات الطوارئ الدولية، بينما تمكن فريق "عملية التضامن الإماراتية لنزع الألغام" التابع لدولة الإمارات العربية المتحدة من نزع نحو 61000 لغم من مناطق النبطية وبنت جبيل ومرجعيون وذلك بالتعاون مع مكتب مكافحة الألغام التابع للجيش اللبناني وفق تقديرات المكتب الإعلامي التابع للفريق، وساهم بشكل محدود مكتب "ماك" لمكافحة الألغام بالتعاون مع عدد من الشبان المتطوعين في نزع الألغام من عدد من المناطق القريبة من الخط الأزرق، وجرح منهم أكثر من ستة عناصر في إطار هذه المهمة الإنسانية والوطنية.‏

نثر الألغام كالأرز!‏

يدرك أهالي القرى الحدودية حجم مخاطر حقول الألغام، وذاكرتهم ما زالت تحفظ أداء قوات الاحتلال قبيل فترة انسحابها والخلفيات الانتقامية التي دفعتها لزراعة هذه الألغام حتى يحصد المواطن اللبناني بعد رحيلها الموت. ويلخص المواطن يوسف عباس (50 عاماً) من بلدة رامية وضع الأهالي في ظل هذا الواقع فيقول "منذ الانسحاب حتى اليوم وبرغم المحاولات المتواضعة من الجيش اللبناني وفريق الإمارات والقوة الدولية لنزع الألغام، إلا أننا ما زلنا نعيش حتى الآن في بحر من الألغام، ونكاد لا نغادر منازلنا للعمل في الحقول... وآخر شهدائنا ضحية الألغام الشاب علي عيسى".‏

ويعود عباس الذي يعمل في حقل للتبغ بذاكرته إلى العام 2000 وتحديداً إلى الساعات التي سبقت عملية دحر العدو قائلاً: "قبل ساعات على مغادرة آخر آلية لهم، أحضروا فريقا متخصصا في زراعة الألغام قوامه 100 جندي، وبادر على الفور إلى زرع الألغام في حقول البلدة وكأنه ينثر الأرز في محاولة للاقتصاص من صمود المواطنين ومحاصرتهم وتحويل حياتهم إلى جحيم".‏

ويشير المواطن علي أبو خليل من سهل القليلة جنوبي صور إلى صعوبة نزع الألغام والوقت الذي تأخذه قائلاً: "إن الاحتلال الإسرائيلي زرع أكثر من ألفي لغم في سهل العامرية أثناء الاحتلال، وقد أمضى فريق الألغام عاما كاملاً وهو يزيلها حتى بات بإمكان المزارعين العودة الى حقولهم".‏

أودية العقارب والأفاعي!‏

هاجس الوقوع في مصيدة حقول الألغام لا يقتصر على الأهالي فحسب، بل تجاوزهم إلى قوات الطوارئ الدولية الذين لا ينفكون عن التحذير من المخاطر الألغام، خصوصاً في منطقة مرجعيون والأودية المجاورة لها وخراج بلدة مارون الرأس على الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين المحتلة، وينصح ضباط الهدنة التابعون للأمم المتحدة الأهالي والمزارعين بعدم النزول إلى حقولهم والأودية لأنها تعتبر مصيدة إسرائيلية ثابتة لكثرة ما تعج بالألغام.‏

ويقول احد الضباط الدوليين إننا نطلق اسم أودية العقارب والأفاعي السوداء على تلك المنطقة المزروعة بالألغام، ونحذر حتى فريقنا من الاقتراب منها، ولكن غالبا ما لا يكترث رعاة الماشية لتحذيراتنا، فينتهي بهم الأمر إلى الموت عندما يقعون في احد هذه الحقول الخطرة. لقد سقط منهم أكثر من عشرة رعاة خلال العامين الماضيين ناهيك عن نفوق عشرات رؤوس الماعز!‏

إضافة إلى العمليات الميدانية لنزع الألغام ثمة جانب آخر يشهد تقدماً وهو عملية التوعية التي تساهم فيها جمعيات أهلية والفرق المولجة بعملية نزع الألغام، ويشار هنا إلى جهد واضح ومميز على مستوى الإرشاد والتحذير والتوعية قامت به الجمعية الخيرية لمساعدة جرحى ومعوقي الحرب في لبنان "مؤسسة جرحى المقاومة" بتطبيق مشروع عملي للتوعية، وذلك استكمالاً للخطة الوطنية العامة للتوعية من مخاطر الألغام التي أطلقها المكتب الوطني لنزع الألغام (اللجنة الوطنية للتوعية من مخاطر الألغام) داخل المدن والقرى والمدارس في الجنوب والبقاع الغربي في قرى قضاء بنت جبيل (بيت ياحون، عيتا الشعب، يارون، القنطرة، طلوسة)، إضافة إلى عشرات القرى الجنوبية الأخرى.‏

وقد جالت العديد من الفرق التابعة لهذه الجمعية على المناطق المحررة منذ اليوم الأول للتحرير للقيام بحملات توعية شاملة وواسعة في صفوف المواطنين وخاصة المزارعين، ونظمت العديد من الندوات الإرشادية التي تشدد على عدم الاقتراب من حقول الألغام أو أي جسم مشبوه مزروع في الجنوب، أو التقاط ما تلقي به الطائرات الإسرائيلية كالألعاب المفخخة التي درج الاحتلال على إلقائها في محاولة لاصطياد الأطفال، وغالبا ما كان يقع هؤلاء ضحايا لعبة صغيرة على جانب الطريق. كما استطاعت هذه الفرق من خلال المنشورات والبيانات والندوات والمؤتمرات أن تجنب مئات المواطنين من أخطار هذه الألغام والقنابل الموقوتة.‏

هذا الجانب من معاناة اللبنانيين نتيجة الاحتلال الإسرائيلي يبدو أنه سيأخذ وقتاً نظراً لضخامة حجم حقول الألغام التي خلفها وراءه ويرفض تسليم الخرائط التي تحدد أماكنها، وهي كاحتلال مقنّع وسرطان كامن ينتقي ضحاياه ليؤكد حقده وعدوانه المستمر إلى جانب اعتقال الأسرى واحتلال أجزاء من الأراضي اللبنانية والإصرار اليومي على انتهاك السيادة اللبنانية براً وبحراً وجواً.‏

تحقيق: محمد جعفر‏

الانتقاد/ تحقيقات ـ الانتقاد1155 ـ 31 آذار/مارس 2006‏

2006-10-30