ارشيف من : 2005-2008

"الورقة الإصلاحية" بمواجهة الاعتراضات:تباين حول الأولويات المفترضة.. وفقدان الآلية لوقف الهدر والفساد

"الورقة الإصلاحية" بمواجهة الاعتراضات:تباين حول الأولويات المفترضة.. وفقدان الآلية لوقف الهدر والفساد

اقتحم الوضع الاقتصادي هموم اللبنانيين فجأة بعدما أبعدته الظروف السياسية قسراً وحجبت الأضواء عنه، وعاد ليتألق من جديد على وقع الخلافات حول تقييم الورقة الإصلاحية التي أعدتها الحكومة تمهيداً لتقديمها إلى مؤتمر بيروت واحد.‏

الورقة التي ناقشها مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة تحولت إلى ورقة سياسية ومصدراً جديداً للخلاف بين القوى السياسية المكونة لمجلس الوزراء، واعتراض القوى السياسية خارج الحكومة إضافة إلى الهيئات الاقتصادية والمصرفية والعمالية والنقابية التي يبدو أن اعتراضها سيأخذ أشكالاً تصعيدية مع الإضراب التحذيري للمجلس المركزي لروابط المعلمين في المدارس الرسمية ورابطة أساتذة التعليم المهني والتقني الرسمي في لبنان.‏

قبل أن توضع ورقة الإصلاح المالي والاقتصادي على مشرحة مجلس الوزراء كبند للنقاش تسربت بنود هذه الورقة إلى وسائل الإعلام، وسرعان ما تعالت أصوات الهيئات الاقتصادية والنقابية ومكوّنات المجتمع المدني لإبداء ملاحظاتها الأولية عليها واستيائها منها لكونها تتبنى من جديد سياسة الضرائب المفتوحة وسياسة رفع الدعم عن المواد الحيوية للمواطن، من قمح وتبغ وبنزين بذريعة تقليص النفقات والعجز وزيادة الإيرادات ووقف الهدر ومكافحة الفساد.‏

وإذا كانت بعض الأصوات أيدت الورقة بشكل عام، إلا أنها لا تلبث أن تتوقف عند التفاصيل لتدلي بملاحظاتها العديدة حولها، فيما البعض الآخر انطلق في اعتراضه مبتدئاً بالشكل ثم المضمون وصولاً إلى انتقاد السياسات المعتمدة في الورقة وترتيب أولوياتها، ناهيك عن التضارب بين بعض البنود والشكوك حول إمكانية تحقيق أهدافها.‏

وقالت مصادر مواكبة إن الحكومة تقصّدت عدم مشورة الهيئات الاقتصادية في الورقة لمعرفتها المسبقة بأن هذه الهيئات ستبدي اعتراضاً عليها لتضمنها ضرائب جديدة، كزيادة الضريبة على أرباح الشركات من 15% إلى 20%، وزيادة على القيمة المضافة من 10% إلى 12%، ورفع الدعم عن أسعار البنزين، وهي مشاريع لا تلقى ترحيباً بالتأكيد من جانب هذه الهيئات على اختلافها.‏

وتتابع المصادر: "الواضح أن الاعتراض لا يقتصر على الهيئات الاقتصادية والنقابية والعمالية فقط، إذ إن المواقف المعلنة لبعض القوى السياسية الفاعلة لا سيما التيار الوطني الحر وحركة أمل وحزب الله، لديهم ملاحظاتهم على بنود الورقة التي نوقشت بنداً بنداً خلال جلسة مجلس الوزراء".‏

وفي هذا السياق قال وزير العمل طراد حمادة لـ"لانتقاد" "ان حزب الله توقف ملياً أمام هذه الورقة مع التأكيد المسبق انه يرغب في العملية الإصلاحية للاقتصاد اللبناني، وهو أبدى ملاحظات حول كل بند من بنود الورقة".‏

ويرى الوزير حمادة في مقاربته للورقة أنها مبنية على فلسفة الاقتصاد الليبرالي ونصائح البنك الدولي، لكنه يلفت الانتباه إلى أن هذه الفلسفة شهدت في السنوات الأخيرة تراجعات هامة نتيجة للحركات النضالية التي قامت بها النقابات والأحزاب المدافعة عن حقوق العمال الاجتماعية، بحيث أثبتت نتائج الانتخابات في أكثر من بلد في أميركا اللاتينية وأوروبا تراجعاً هاماً للخيارات المؤيدة للمنحى الاقتصادي الليبرالي الامبريالي الذي تحمس له المحافظون الجدد، و"لكن للأسف بعض الاقتصاديين المحيطين بتيار "الأكثرية" يعيدوننا في طروحاتهم خمس سنوات إلى الوراء من دون الالتفات إلى المشكلات التي واجهتها هذه المدرسة الاقتصادية على المستويين النظري والتطبيقي عالمياً".‏

حبيقة‏

الخبير الاقتصادي لويس حبيقة يُظهر في معرض تقييمه "للورقة" وقوفه إلى جانبها بشكل عام، إلا انه يبدي الكثير من الملاحظات في التفاصيل، خصوصاً في ما يتعلق بالضرائب المقترحة. وهو يعتبر أن "الدولة ليست في وضع يسمح لها بتطبيقها لأن المواطن بكل بساطة لم يعد باستطاعته أن يتحمل مزيداً من الضرائب".‏

ويأخذ حبيقة على الحكومة شروعها في وضع الضرائب قبل أن توقف الهدر الحاصل في مختلف مؤسسات الدولة وقطاعاتها، ورد سبب ذلك إلى "عدم وجود رؤية سياسية سليمة لوقف الهدر الحاصل راهناً". وأبدى خشيته من أن يؤدي "فرض الضرائب بهذه الطريقة إلى نتيجة عكسية". ويورد مثالاً على ذلك أن زيادة الضريبة على الفوائد من 5% إلى 7% يؤدي إلى هروب الرأسمال إلى الخارج، في حين يفترض إجراء إصلاحات إدارية قبل أي خطوة من هذا النوع.‏

ويعيب حبيقة أيضاً زيادة الضريبة على أرباح الشركات من 15 إلى 20%، لأن الدولة لم تستطع أصلاً الاستحصال على ضريبة الـ15%، لكون الشركات لا تصرّح عن أرباحها الحقيقية وتقدم أرقاماً وهمية. ولو جرى استيفاء هذه الضرائب لما كنا بحاجة إلى رفعها".‏

ويستغرب عدم تضمين "الورقة" ضرائب على الأملاك البحرية، ليخلص إلى أن الورقة تستسهل فرض الضرائب السريعة بعيداً عن سياسة تخفيف العجز وقال: "هل ندفع ضرائب إضافية حتى يستمر الهدر؟!".‏

ويتابع حبيقة: "هذه الورقة غير منسجمة مع نفسها، فهي تهدف إلى زيادة الإيرادات، لكنها لا تفتش عن سبب الهدر والفساد، خصوصاً في مؤسسة كهرباء لبنان التي تستنزف من خزينة الدولة سنوياً مليار دولار!". ثم يسأل: "ما نفع أن نرفع الدعم عن بعض المواد الحيوية، وفي اليوم التالي تنزل الناس إلى الطرقات".‏

أما في موضوع الخصخصة فيبدي حبيقة اعتراضه على إنهاء العقود الحالية للقطاع الخلوي وعلى خصخصة قطاع الكهرباء، لأن من شأن ذلك زيادة التعرفة. والحل هنا يكمن في وقف الهدر المالي والتقني. إن أي زيادة للتعرفة من شأنها أن تزيد الهدر من خلال لجوء المواطنين إلى مزيد من المخالفات على شبكات الكهرباء.‏

وزني‏

من جهته يبدي الخبير الاقتصادي الدكتور غازي وزني شكوكاً في قدرة الورقة على تحقيق أهدافها المعلنة، مشيراً إلى أن الورقة تقول إنها تريد تحقيق معدلات نمو مرتفعة، وهذا يتطلب مناخات سياسية وأمنية داخلية، وتحريكاً للعجلة الاقتصادية، خصوصاً لجهة تشجيع الاستثمار العربي والسياحي.. ومن أهدافها أيضا خفض العجز في المالية العامة إلى نسبة 2% من الناتج المحلي، ورفع الفائض في الموازنة العامة إلى نسبة 2%، غير أن هناك شكوكاً لناحية قدرة الحكومة على خفض الإنفاق.‏

ويأخذ وزني "مبضعه" الاقتصادي للشروع في "عملية جراحية" ليشرّح الورقة ويقيم بنودها، فيبين أن مقترحاتها غير كافية لتوفير تراجع المديونية، ملاحظاً في نهاية البرنامج مستوى مرتفعاً من المديونية، إذ تقارب الـ135% من الناتج المحلي، فيما المطلوب أن لا تتجاوز الـ100%. وفي بند الإصلاحات الاجتماعية تغيّب الورقة الحمايات الاجتماعية والمعيشية لكونها لا تعالج الخدمات: من صحة وتعليم وبيئة.. ولا تحافظ على القدرة الشرائية للمواطنين وفقاً لسياسة تجميد معاشات الموظفين في القطاع العام.‏

ويلفت وزني إلى أن الورقة تتجاهل الإنماء المناطقي، وهي بالتالي غير قادرة على التخفيف من حدة الفقر وتوفير فرص العمل أو إنشاء شبكات أمان.‏

ويوافق وزني ما تقدم به حبيقة بشأن الإصلاحات الضريبية، وهو يؤكد أنها "تزيد العبء على المواطنين، وتؤدي إلى ضرب دخل صغار المدخرين والمتعاقدين، وتعمّق أزمتهم المعيشية، إضافة إلى تهريب الرساميل.. كما أنها تستبعد المودعين في ظل ظروف إقليمية تشتد فيها المنافسة بين القطاعات المصرفية والمالية، وترتفع فيها الفوائد العالمية".‏

ويفترض وزني أنه على الحكومة "إخضاع الشركات العقارية للرسوم الضرائبية، والقطاع المصرفي من خلال اقتطاع نسبة 5% من مردود سندات الخزينة، أي ما يوازي 75 مليون دولار سنوياً، بدل تحميل المواطن عبء زيادة الضريبة على القيمة المضافة".‏

وفي باب تخفيض الإنفاق وإصلاح النظام التعاقدي، يرى وزني أن هناك خطوات إيجابية، غير أن هذه الإصلاحات تواجه صعوبات لناحية خفض العجز في مؤسسة كهرباء لبنان، إن لجهة رفع التعرفة أو لجهة تحرير أسعار المشتقات النفطية، وهذه الخطوات من شأنها أن تواجه بمعارضة كبيرة من جانب الهيئات الاقتصادية والنقابات العمالية والقوى السياسية في البلاد.‏

أما في موضوع الخصخصة فيبدي حماسة لخصخصة قطاع الخلوي بسبب الطفرة المالية التي تعيشها المنطقة وارتفاع أسعار هذا القطاع، لكنه يشير إلى أهمية "التوافق السياسي حوله لتتم الخطوة بشكل شفاف، خصوصاً أن هذا القطاع يدر سنوياً نحو مليار دولار"، لذلك يجب أن لا يقل بيعه عن 5 مليارات دولار".‏

وعلى صعيد الإصلاحات التنموية يخلص وزني إلى القول إن "الورقة تهدف إلى إنشاء ما يسمى بمجلس أعلى للسياسة الاجتماعية تناط به مسؤولية تحديد الاستراتيجية الاجتماعية، بيد أن فعالية هذا المجلس تحتاج إلى وقت لتتبلور، ولن يكون ذلك على المدى القريب، وليس لدى الورقة رؤية إنمائية واضحة لجهة القضاء على الفقر ومكافحة الفساد".‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1156 ـ 7 نيسان/أبريل 2006‏

2006-10-30