ارشيف من : 2005-2008
لبنان "يعيش" عدوان نيسان بعد عشر سنوات: ذكرى المجازر تستحضر المقاومة وسلاحها لمنع تكرارها
عشر سنوات مضت على العدوان الإسرائيلي على لبنان تحت عنوان "عناقيد الغضب". ستة عشر يوماً (11 ـ 26 نيسان 96) من الرعب عاشها اللبنانيون لا سيما أهالي الجنوب والبقاع الغربي وبعض أحياء العاصمة بيروت. المجازر تتوالى: سحمر، المنصوري، الجميجمة، النبطية الفوقا، قانا.
أيام لا يمكن أن تمحى من ذاكرة اللبنانيين وإن حاول البعض أن يغتال هذه الذاكرة ويشطب الآلام والآهات والعذابات والصمود البطولي الذي تكامل فيه صمود الشعب مع جهاد المقاومين وقيام الجيش اللبناني بواجب الدفاع عن وطنه وقيام الدولة بتوفير الشرعية للمقاومة لتحرير الأرض والدفاع عن السيادة، وكانت النتيجة إقرار العدو بشرعية المقاومة في تفاهم نيسان وتكريس معادلة توازن الرعب وحماية المدنيين اللبنانيين.
في تلك الأيام تحول "الغضب" الإسرائيلي إلى "عناقيد" بعد ثلاث سنوات من فشل "تصفية الحساب" مع المقاومة، وقال إسحاق رابين عقب العدوان لقد هزمنا حزب الله. كل هذا الغضب، كان نتيجة فقدان العدو زمام المبادرة التي حاول العدو جاهداً استعادة هيبته المُراقة من خلال قلب المعادلات القائمة متسلحاً بضوء أخضر أميركي والاحتشاد الدولي بذريعة مكافحة الإرهاب من خلال مؤتمر شرم الشيخ الذي انعقد منتصف شهر آذار تحت عنوان "صانعي السلام" ظاهرياً و"تقويض المقاومة واستهداف القوى الممانعة للتسوية" ضمناً.
الصمود اللبناني وعزيمة المجاهدين أسقطا أهداف العدو التي حاول تحقيقها من خلال حشر المدنيين في أتون حربه ومعادلات سحق عظام الأطفال الطرية بصواريخه "الذكية" لكسر إرادة الصمود وهز عزيمة المجاهدين التي تعاظمت على وقع المجازر، فسددوا ضربات مؤلمة له في مواقعه ومستوطناته في شمال فلسطين المحتلة، وكانت لهم الكلمة الأخيرة مع آخر دفعة من صواريخ الكاتيوشا قبل عشر دقائق من دخول تفاهم نيسان حيز التنفيذ عند الرابعة من فجر السادس والعشرين من نيسان.
لم ينس اللبنانيون طوال هذه السنوات آلام إسراء اللقيس ونظراتها الشاردة من شدة الألم بعد إصابتها بصاروخ إسرائيلي في حي السلم والتسبب بشلل جزئي لدماغها وحرمانها من التمتع بطفولتها. وهم لم ينسوا أيضاً الرضيعة نور العابد التي هشمت الطائرات الحربية بصواريخها عظامها الطرية بعدما انهار سقف منزل عائلتها في النبطية الفوقا، ولا ذاك الطفل الرضيع في قانا الذي فصلت شظايا القذائف المحرمة دولياً رأسه عن جسده بينما كان يفترض أن يكون في حماية قوات الطوارئ الدولية، أو قصف سيارة إسعاف المنصوري عند حاجز قوات الطوارئ الدولية أيضاً!
ربما ذاكرة البعض لم تنس، ولكنها تريد أن تتناسى أن الأمم المتحدة لم توفر الحماية للأطفال والنساء والشيوخ في "عناقيد الغضب" وفي غيرها من العمليات العسكرية العدوانية حتى ولو كانوا في ثكنات قوات الطوارئ الدولية كما حصل في قانا والمنصوري! يتناسى هؤلاء عمداً أن مجلس الأمن لم يستطع إدانة "إسرائيل" لارتكابها مجزرة قانا لأن واشنطن استخدمت حق النقض الفيتو! وهؤلاء أنفسهم يعتبرون أن اتفاقية الهدنة يمكن أن تحميهم وهي سقطت مرات عدة خلال الاجتياحات الإسرائيلية المتعدد للبنان منذ العام 78 وصولاً إلى 82 وبعدها في 93 و96 وربما هي تسقط كل يوم مع كل اختراق للسيادة اللبنانية!
بين 11 و26 نيسان، ستة عشر يوماً حربياً بكل ما للكلمة من معنى، تعرض خلالها لبنان لأكثر من ألفي غارة شنتها الطائرات الحربية، وسقط قرابة 35 ألف قذيفة من مختلف الأعيرة. وكانت الحصيلة في النهاية سقوط نو مئة وأربعة وستين شهيداً وثلاثمئة وواحد وخمسين جريحاً سقط منهم مئة وشهيدان في قانا وحدها، إضافة إلى تهجير أربعمئة ألف مواطن باتجاه بيروت وبعض المناطق.
امتدت مساحة القصف لتشمل حوالى 170 بلدة وقرية، وتضرر أكثر من 7200 منزل فيما دمر 430 منزلاً بشكل كامل, فضلاً عن تدمير المنشآت الحيوية في القرى والبلدات من محطات مياه وكهرباء وطرقات ومدارس ومستشفيات، إضافة إلى تدمير محطات الكهرباء المركزية في الجمهور.
الوحشية الإسرائيلية لم تترك لا حجراً ولا بشراً، وأطلقت آلة الحرب الجهنمية العنان لحقدها مرتكبة العديد من المجازر التي هزت ضمير الإنسانية وما زالت آلامها النفسية والعصبية حاضرة بقوة لدى ذوي الشهداء وأقاربهم وفي ذاكرة الوطن.
أولى المجازر بدأت في بلدة سحمر الجنوبية، حيث لم تمهل آلة الحرب الصهيونية المتعطشة لإراقة الدماء، أهالي البلدة كي يحزموا امتعتهم ويشتروا حاجياتهم قبل انتهاء مهلة الإنذار المعطى لهم لمغادرة البلدة. باغتهم القصف في اليوم الثاني للعدوان موقعاً تسعة شهداء بينهم طفل وثلاث فتيات وجرح تسعة آخرون.
كانت مجزرة سحمر البداية... وكرّت السبحة.
في الثالث عشر من نيسان أي في اليوم الثالث للعدوان، همجية العدو ووحشيته تنال من عائلة عباس جحا في سيارة الإسعاف لدى مغادرته المنصوري.
في ذلك اليوم كان عباس جحا ينقل أطفاله من جحيم القصف في المنصوري، واعتقد أن سيارة الاسعاف ستوفر له ولأطفاله وبعض جيرانه سبيلاً آمناً للنجاة... ولكن طائرات الأباتشي الأميركية الصنع لاحقته وطاردته واستهدفت سيارة الإسعاف عند نقطة تفتيش لقوات الطوارئ الدولية، وكانت الحصيلة استشهاد سبعة أشخاص وجرح تسعة. ثُكل الوالد باستشهاد أربعة أفراد من عائلته، ولعل مشهده وهو يحمل طفلتيه ويصرخ أمام عدسة الكاميرا التي صودف وجودها هناك ونقلت المشهد إلى العالم لن يبارح الذاكرة، وكذلك أنين الطفلة التي تدلى رأسها من الإسعاف أو الطفلة الثانية التي لفظت أنفاسها وهي تنادي عمتها.
في الثامن عشر من نيسان وقبيل ساعات من مجزرة قانا، ظن المواطن حسن العابد أن عائلته أصبحت في مأمن بعدما نقلها من مسكنها الذي يشرف عليه موقعا الاحتلال في تلتي الدبشة وعلي الطاهر. بعد توالي الإنذارات الإسرائيلية بوجوب الإخلاء واشتداد القصف، قرر حسن نقل عائلته إلى مكان أكثر أمناً. انتقل إلى مسكن جاره علي جواد مكي، ولكن الطائرات الصهيونية قصفت المنزل وحولت طبقاته الثلاث الى ركام انهارت على أفراد العائلة، وذهب ضحية هذه المجزرة سبعة أشخاص بينهم الرضيعة نور العابد التي لا يتجاوز عمرها ثلاثة أيام فرحلت شهيدة في حضن أمها.
وقبل انتهاء اليوم الثامن من العدوان، كانت مجزرة قانا احدى أكبر مجازر العدو الإسرائيلي وأكثرها وحشية. خمسة آلاف مواطن من بلدات قانا، جبال البطم، صديقين، رشكنانيه، حاريص، والقليلة، لجأوا إلى مركز القوات الفيدجية التابعة لقوات الطوارئ الدولية ظناً منهم بأن علم الامم المتحدة سيحميهم من القصف، إلا أن القذائف الصهيونية تساقطت الواحدة تلو الأخرى على الهنغارات في المركز، وقطعت شظايا القذائف المحرمة دولياً رؤوس الأطفال الرضع وضرجت الأمهات بالدماء وهن يحضنّ أطفالهن، وتناثرت الأشلاء في مشهد مروع أبكى الكاميرات والشاشات والمشاهدين. وكانت حصيلة المجزرة سقوط مئة واثنين من الشهداء إضافة إلى إصابة مئات الجرحى.
على الرغم من هول المجازر وفداحة الخسائر المادية في عدوان نيسان، تمكن اللبنانيون من تسجيل انتصار بصمودهم وكرست المقاومة معادلة حماية المدنيين عبر تفاهم نيسان الذي أسس للانتصار الكبير في العام ألفين عندما تحرر الجزء الأكبر من الأراضي اللبنانية.
واليوم تعود الذكرى بعد عشر سنوات بينما يواجه لبنان عدواناً مماثلاً في الأهداف من خلال القرار الدولي 1559 الذي يستهدف سلاح المقاومة الذي حمى اللبنانيين ووفّر لسكان المناطق المحاذية لفلسطين المحتلة الأمن والاستقرار، وجعل العدو يفكر ألف مرة قبل الإقدام على أي حماقة لأنه يعرف أنه سيدفع الثمن، وأن لبنان أصبح قوياً بمقاومته، وسلاحها هو الضمانة لمنع ارتكاب المزيد من المجازر، وليس الضمانات الدولية أو مجلس الأمن الذي ارتكبت في "حرمه" مجزرة قانا، احدى ابشع المجازر في تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني، والمجلس نفسه هو الذي لم يدن "إسرائيل" لارتكابها هذه المجزرة بعد "الفيتو" الأميركي الذي لن ينساه اللبنانيون كما لم ينسوا مجزرة قانا وأخواتها في عدوان نيسان وسائر المجازر التي ارتكبت بحقهم منذ قيام هذا الكيان.
الانتقاد/ لبنانيات ـ العدد 1158ـ 21 نيسان/ ابريل 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018