ارشيف من : 2005-2008
مؤتمر "المأزق الاقتصادي ـ الاجتماعي في لبنان.. والسياسات البديلة" وجهة نظر أخرى تعزز الحوار حول الورقة الإصلاحية
سعد حميّه
بدأ النقاش حول الوضع الاقتصادي اللبناني يأخذ مداه مع إمكانية أن يتحول مفتوحاً بعد طرح الورقة الإصلاحية التي أعدّتها الحكومة داخل مجلس الوزراء للنقاش والدراسة وتخصيص جلسات استثنائية لدراسة بنودها، وإعلان الحكومة نيّتها توسيع النقاش ليشمل كل شرائح المجتمع اللبناني، السياسية والاقتصادية والعمالية، تمهيداً للوصول إلى إجماع لبناني حول الورقة تمهيداً لتقديمها إلى مؤتمر "بيروت واحد".
ومساهمة في تعزيز هذا النقاش وتفعيله جاء المؤتمر "المأزق الاقتصادي ـ الاجتماعي في لبنان.. والسياسات البديلة" الذي نظّمه المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق والحركة الثقافية ـ الاجتماعية، محاولاً تقديم إضافات نوعية لإثراء النقاش الدائر مع التركيز على الجانب الاجتماعي في الإصلاحات الاقتصادية المنوي إجراؤها، والإجابة عن الأسئلة الكبيرة التي تتعلق بالوضع الاقتصادي بقطاعاته المختلفة، وتقديم رؤى بديلة من شأنها أن تقدم نموذجاً تنموياً بديلاً.
أفاض المشاركون في المؤتمر الذي انعقد في فندق السفير ـ الروشة طوال يوم السبت الفائت، في الحديث عن تجليات المأزق الاقتصادي اللبناني والسمات الأساسية له تاريخياً، بدءاً من مرحلة الانتداب وصولاً إلى الاستقلال ثم الفترة الشهابية، فالحرب الأهلية وما بعدها وصولاً إلى مرحلة التسعينيات حيث تفاقم المأزق الاقتصادي والخطط الإصلاحية التي اعتمدت ومكامن الخلل فيها.
وحملت الأوراق المقدمة في الجلسات الثلاث والتي تجاوزت ست أوراق ـ عدا التعقيبات والنقاشات ـ طروحات وأبحاثا جديّة حاولت الإجابة عن الأسئلة الكبيرة المتعلقة ببنية الاقتصاد اللبناني، وتطرقت إلى القضايا الراهنة كالورقة الإصلاحية بصورة عابرة، لأنه لا يمكن حل المسألة الاقتصادية بالتركيز على السياسات المالية والنقدية فقط، لأن التعامل هنا مع الاقتصاد الكلي ومشاكل قطاعية مختلفة يجب العمل على إيجاد الحلول لها بشكل متوازٍ.
وأخذ المؤتمر طابعاً اقتصادياً ذا نفس اجتماعي برغم اختلاف تجربة وآراء بعض المحاضرين وتعدد مشاربهم السياسية والاقتصادية.. كما ظهر تنوع الحضور، وإن لوحظ أن هناك غياباً متعمداً من قبل الفريق الذي يتمثل في السلطة، والذي يمثّل المذهب الاقتصادي الليبرالي الحديث الذي جعل من لبنان منكوباً حسب ما ورد في بعض الأوراق.
وكانت الطروحات والأبحاث على قدر كبير من الواقعية في تشخيص مكامن الخلل وتقديم الإجابات، وبدا واضحاً الجهد المبذول في إعداد الأوراق واعتماد الطرائق العلمية والإحصائية والمقارنات واعتماد النقد البناء وتقديم خلاصات يمكن التأسيس عليها في أي نقاش حول الوضع الاقتصادي في المرحلة المقبلة.
كما أظهرت النقاشات والأوراق المقدمة أن هناك مذهبين اقتصاديين يتنافسان في لبنان، وهذا ليس أمراً جديداً، بل له جذوره التاريخية التي تعود إلى مرحلة الاستقلال، وكانت دائماً الغلبة لأنصار المذهب الليبرالي في أكثر وجوهه تطرفاً، وغالباً ما كان ممثلاً في السلطة برغم تطعيم سياساته الاقتصادية في بعض المراحل بطروحات تلقى قبول المدرسة الاجتماعية إذا صح التعبير.
وكشفت النقاشات أن الأزمة الاقتصادية في لبنان ـ خصوصاً في المراحل الأخيرة ـ أصبحت أزمة نمو وتنمية وأحد مظاهرها المديونية العامة وجنوح الحكومات السابقة والحكومة الحالية دوماً إلى استقدام المزيد من القروض لتسديد ما يترتب على الدولة من خدمة للدين العام بدلاً من التفكير الجدي في الدخول في نهضة اجتماعية شاملة تسمح بزيادة فرص العمل بشكل كبير، وبالتالي توليد مداخيل جديدة نابعة من جهد إنتاجي جماعي من خلالها يمكن تسديد أصل الدين، وهذا يعني إعادة هيكلة بنية الاقتصاد اللبناني وإعادة الاعتبار لقطاعي الزراعة والصناعة وتعزيز الخيارات الاجتماعية والخروج من المقولات الثابتة بأن الاقتصاد اللبناني لا يمكن أن يكون إلا اقتصاد خدمات وتجارة، ولا يمكن أن يكون بالأساس إلا مع الخارج وفي الخارج.. والتخلي عن مقولة أن النمو والازدهار لا يمكن أن يكونا إلا في ظل أكثر أشكال الليبرالية تطرفاً.
وفي ظل النقاش المفتوح حول الورقة الإصلاحية وأفكارها الليبرالية تبدو الأفكار والطروحات الاجتماعية التي طرحها المؤتمر مادة غنية للنقاش وتمثل وجهة نظر أخرى قد تصل إلى المعنيين عبر الحوار، خصوصاً أن الحكومة وعدت بـ"توسيع بيكار" النقاش ليشمل أوسع شريحة ممكنة من الهيئات الاقتصادية والعمالية والسياسية. وربما تستفيد هذه الطروحات من التغييرات التي شهدتها تركيبة الحكم ومشاركة تيارات سياسية تمثل المدرسة الاجتماعية في الحكومة من خلال حزب الله، وهذا الأمر من شأنه أن يجعل النقاشات أكثر عقلانية ومراعاة للجوانب الاجتماعية والاقتصادية.
الافتتاح
وقد افتُتح المؤتمر بكلمتين حددتا معالم اتجاهاته وأهدافه.. رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق د. علي فياض عرض لأبرز مكامن الخطورة في البرنامج "التصحيحي" للحكومة، وهو "الجموح نحو الاستدانة الخارجية"، مشيراً إلى أن هذه الديون (الجديدة) "يراد لها أن تُستهلك بشكل كامل تقريباً في إطفاء قسم من أصل الدين العام بدلاً من توظيف جزء كبير منها في تحديث الاقتصاد وإعادة بناء قدراته الإنتاجية والتنافسية، فضلاً عن الاستثمار في بنى تحتية أساسية لطالما شكل نقص التمويل عائقاً من عوائق تنفيذها".
وأشار إلى أنه "في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء سجل العديد من الوزراء ملاحظات مهمة على الورقة الإصلاحية قد تقيّد جنوح الحكومة نحو الاستدانة، وأمل إخراج الخطة الإصلاحية من الحسابات والتجاذبات السياسية واتخاذ الإجراءات الكفيلة بمعالجة المشكلات بموضوعية".
وعدد أهداف المؤتمر بـ"تعزيز المشاركة في النقاش الوطني حول الطروحات الإصلاحية الأسلم والأفضل لبلورة نموذج تنموي اقتصادي اجتماعي بديل ذي مرتكزات محددة وشفافة تلبي طموحات أوسع شريحة ممكنة في المجتمع"، وأبرزها:
ـ إعادة ترسيم حدود المصالح بين القطاعين الخاص والعام بما يحفظ للدولة دورها في تعبئة الطاقات والموارد الوطنية وتوجيهها لما فيه المصلحة العامة، ويضمن في الوقت ذاته للقطاع الخاص تأدية دوره بأكبر قدر من التنافسية والشفافية.
ـ التوزيع العادل لا لعائدات النمو والثروة وحسب، وإنما أيضاً لأعباء التصحيح ضماناً للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وذلك عبر نظام ضريبي عادل.
ـ توفير فرص عمل من خلال نمو اقتصادي مستدام على قاعدة الإنماء المتوازن لمختلف القطاعات الاقتصادية والمناطق، بعيداً عن اعتبارات الريع والربح السريع.
ـ الاندماج بالمحيط العربي والانفتاح الهادف على الاقتصاد العالمي وتعزيز الروابط الاقتصادية مع الدول النامية.
ـ توفير الحوافز والمقومات التي تسمح للاقتصاد اللبناني بتحسين موقعه التنافسي إقليمياً ودولياً.
ـ تصحيح التشوهات والخلل الذي تعاني منه الأسواق عموماً في لبنان بما يضمن مصلحة المنتجين والمستهلكين على السواء ويوفر للاقتصاد المرونة الكافية، وذلك عن طريق ربط الاستقرار المالي والاقتصادي والاجتماعي بتوازنات الاقتصاد الحقيقي.
ـ وضع حد للتدهور المريع الذي تشهده البيئة حالياً والحفاظ على الموارد الطبيعية.
الحص
من جهته رئيس الحكومة الأسبق د. سليم الحص رأى أن واقع المشهد الاقتصادي في لبنان "يوحي بالانهيار الوشيك.. إنما مع وقف التنفيذ".
ورأى أن هناك مسلمات ثلاث مطلوب الالتزام بها لتحقيق الإصلاح: أولاً أن يكون الإصلاح شاملاً أو لا يكون.. ثانياً أن الإصلاح يفترض وجود صالحين ومصلحين.. وثالثاً أن الإصلاح السياسي هو المدخل الطبيعي لا بل الضروري للإصلاح الشامل.
واعتبر أن المأزق المالي في لبنان يتمحور حول أزمة الدين العام وكيفية تسديده (40 مليار دولار).. مشيراً في الوقت نفسه إلى أن هذا المأزق متورطة فيه كل الدول الناهضة! وسأل: لماذا يكون على لبنان أن يفكر في تسديد المتوجب عليه بحيث يكون ربما الدولة الوحيدة في العالم غير المثقلة بدين عام؟ وخلص إلى أن المسألة هي إذاً في إدارة الدين العام وليس في إطفائه، وأن المشكلة ليست في وجود الدين العام ولا حتى في حجمه المقلق، بل في عبئه، مشيرا إلى أن عبء الدين العام في لبنان تعدى المئتين في المئة، وهو من الأرقام القياسية في العالم".
ورأى أن الحل يكمن ببرنامج عمل يفضي إلى التخفيف من هذا العبء سنوياً، أي خفض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي، ويكون ذلك بطبيعة الحال ليس فقط بتقليص حجم الدين العام، بل أيضاً بتسريع معدل نمو الناتج المحلي أو الدخل القومي".
وتوزعت أعمال المؤتمر على ثلاث جلسات قدمت فيها ست أوراق، ترأس الأولى النائب فريد الخازن، وقدم الدكتور إلياس سابا ورقة عن "الأزمة الاقتصادية في لبنان.. مسؤولية من؟".. والدكتور عبد الحليم فضل الله ورقة بعنوان "السياستان المالية والنقدية وانعكاساتهما على التنمية".
وفي الجلسة الثانية قدم المحاضر ألبير داغر ورقة عن "الدولة التنموية وتجديد النظام الاقتصادي اللبناني: مقاربة جديدة"، وورقة للمحاضر د. نجيب عيسى عن "النمو المشوّه والتنمية المفقودة". وفي الجلسة الثالثة قدم الوزير السابق جورج قرم ورقة عن "لبنان وفخ المديونية"، ود. غالب أبو مصلح ورقة عن "الليبرالية الجديدة وحقوق الإنسان".
وفي الختام كانت طاولة مستديرة تحت عنوان "نموذج تنموي بديل" يصدر عن المؤتمر بشكل توصيات.
الانتقاد/ محليات ـ العدد 1157ـ 14 نيسان/ ابريل 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018