ارشيف من : 2005-2008
بعلبك أمام معضلة تزاحم البنى "التحتية" والتاريخية!:الصدفة تكشف كنوزاً مدفونة... واللامبالاة تعيد دفنها
تتوالى الاكتشافات الأثرية في بعلبك... ولكن عن طريق الصدفة. خزانات مياه من العصر الروماني، حمامات عامة، فسيفساء، أسوار قديمة، مدافن تحتوي جماجم وقطعاً ذهبية وبرونزية تشير إلى حقبات تاريخية مرت فيها المدينة. تتوزع مواقع الاكتشافات في أحياء مختلفة وفي قلب المدينة وقرب القلعة التاريخية ومحيطها. ثروة في رحم المدينة، وحرمان على سطحها يجهد أهلها لإزالته عنها، ولكن دون جدوى!
هذه الاكتشافات أعادت الوجع إلى أهل المدينة الذي يتخذ وجوهاً متعددة، لعل أبرزها الحرمان والإهمال التاريخيان على الصعيد الرسمي للمدينة التاريخية، وعدم القدرة على الاستفادة من هذه الاكتشافات للاستثمار في تنشيط السياحة نتيجة فقدان التمويل، فتكون النتيجة إعادة طمر بعض المكتشفات بعد تسجيل الملاحظات، أو ضياع بعض القطع نتيجة اللامبالاة، أو ترك البنى التحتية الحديثة تقضي على معالم البنى التاريخية التي تعود إلى حقبات قديمة تاريخياً!
كشفت أعمال البنى التحتية في ورش مشاريع الإرث الثقافي والتنمية المدنية والبنى التحتية التي يشرف عليها مجلس الإنماء والاعمار عن عدة مكتشفات أثرية، أبرزها مغارة مدفنية في محيط تل الكيال تحتوي على قبر لامرأة من العهد الروماني وإلى جانبها ذهبيات وفضيات وزجاجيات ومسامير. يقع تل الكيال على الطرف الغربي لمدينة بعلبك حيث المقلع الروماني الذي أخذت منه تيجان أعمدة القلعة، وكانت "الانتقاد" أثارت مشكلة هذا المقلع في أعداد سابقة مشيرة إلى تحوله إلى مكب للنفايات.
كما اكتشفت ثلاث أرضيات من الفسيفساء الملونة في ساحة خليل مطران وبالقرب من معبدي باخوس وجوبيتر وبستان الخان ـ اكتشف في الستينات من القرن الماضي ـ حيث كان من المقرر إنشاء موقف للسيارات في محيط القلعة كجزء من مشروع الإرث الثقافي.
وتغطي الفسيفساء مساحة خمسة وأربعين مترا مربعا تشكل أرضية للبناء, ويبلغ طول الاولى 8,30 م بعرض 3,5 متر، وهي تمتد تحت الطريق الإسفلتي العام. اما الثانية فتبعد عنها حوالى سبعة امتار، وتبلغ مساحتها ستة عشر مترا مربعا بطول أربعة امتار. والأرضية الثالثة لم تعرف مساحتها بسبب توقف الأعمال. كما جرى اكتشاف جدار اثري بطول ستة امتار وعرض 2,25 وبعض الاجران والاحجار.
كما اكتشف خزان مياه ضخم يعود إلى العصر الروماني بالقرب من القلعة، واستخدم خلال العصر العربي، وله عدة مسارب، وكان يستخدم للري.
واكتشفت مغارة أخرى مساحتها حوالى عشرين متراً وبارتفاع مترين تقريباً في حي بيت صلح باتجاه بلدة نحلة. ويعود تاريخ المغارة إلى القرن الثاني للميلاد وفق تقدير الخبير الأثري شاكر الغضبان، وهي تحتوي على قطع برونزية وبكايات زجاجية وجرة فخارية وسراج فخاري وبقايا عظام لأكثر من عشرين شخصاً.
ولفت مهندس مديرية الآثار في البقاع خالد الرفاعي إلى أن هذه المغارة استخدمت في أكثر من عصر تاريخي، وهي تجاور مغاور أخرى اكتشفت سابقاً إلا أن المغارة الأخيرة لم تمتد يد إليها.
وضمن المكتشفات أيضاً آثار حمام يبعد حوالى مئة متر عن السور العربي لقلعة بعلبك على طريق القدس في حي الشيقان على عمق متر ونصف المتر. ووجدت في الموقع المذكور بلاطات بقياس واحد وعلى جوانبها قواعد لأعمدة فخارية تشكل ركائز لسطح الحمام، ولم يحدد إلى أي حقبة يعود.
وعلى الرغم من أهمية المكتشفات الأثرية وفق تقويم خبراء الآثار، يأخذ أهالي المدينة وبلديتها وفعاليتها على الوزارات والمديريات المعنية عدم اهتمامهم، وحيرتهم إزاء اتخاذ القرار الملائم، وخصوصاً أن الأيام الأولى شهدت فقدان بعض القطع بسبب انعدام الحراسة ومحاولة المشرفين التقليل من قيمة وأهمية بعض القطع المسروقة.
رئيس بلدية بعلبك محسن الجمال حمل المشرفين على أعمال التنقيب مسؤولية فقدان بعض القطع، مشيراً إلى محاولاتهم منع أية جهة للتدخل في المراقبة، وقال لـ"الانتقاد" "إنه بصدد رفع شكوى ضد مجهول لمعرفة مصير القطع المفقودة"، وإنه "يضع هذه الأمور في موضع الشك والريبة ويطالب المسؤولين بالإجابة".
واستغرب الجمّال عدم نقل المكتشفات الجديدة إلى داخل القلعة حيث هناك مكان آمن وسبق أن نقلت إليه مكتشفات المغارة قبل أيام وحفظت فيه.
من ناحيته أكد مسؤول آثار البقاع المهندس خالد الرفاعي "أن القيمة الأثرية للمكتشفات كبيرة جداً"، وشرح طريقة عمل مديرية الآثار مع المكتشفات الأخيرة وقال: "تم تكليف فريق أثري من قبل مديرية الآثار لمواكبة مشروع الحفريات في بعلبك لأنها منطقة أثرية، وهناك متابعة كاملة. إن كل مكتشف حالة خاصة وله وضع معين. مثلاً في ساحة خليل مطران سيتم تعديل مشروع الموقف بسبب لوحات الموزاييك بما يراعي الآثار والمشروع".
أما عن موضوع الحماية فقال: "إن كل أثر له طريقة حماية خاصة. الجرن المفقود، هو جرن من بيت بعلبكي عربي، وهذه الأجران موجود منها المئات، وهو لا يزيد عمره عن خمسين أو ستين سنة، وبالتالي هو ليس أثرياً لأنه بموجب قانون الآثار يعتبر أثرياً ما يعود تاريخه إلى قبل 1700 سنة. ومع ذلك فمديرية الآثار اتخذت الإجراءات اللازمة والآن هناك حراسة ليلية بشكل كامل من مديرية الآثار".
وأوضح الرفاعي أن بعلبك كلها آثار وهذا المشروع هو مشروع بنى تحتية ومجارٍ، والهدف الرئيس هو مواكبة الحفريات بقدر المستطاع حتى نفهم الآثار المستخرجة ونستغل هذه الحفريات كمديرية آثار لدراستها وبرمجة العمل ولأخذ المعلومات العلمية عن المدينة القديمة، وعلى أساسها يتم برمجة الخطوات من قبل مديرية الآثار".
وقال: "إذا استطاعت مديرية الآثار أن تصل إلى آخر الموزاييك دون تعديل المشروع ستعمل على ذلك".
وعرض نائب رئيس بلدية بعلبك الدكتور خالد رشدي الرفاعي لمشكلة الآثار في بعلبك والاشكاليات التي ترافقها فقال: "إن بعلبك منطقة أثرية والتصنيف حسب المخطط التوجيهي للأراضي التي تقع عليها الآثار تسمى ZONE.R وهذه الأراضي بمعظمها مملوكة ولا يستطيع أصحابها استثمارها في البناء أو في مشاريع أخرى لأنه يحظر البناء عليها. في بلاد العالم، تعتبر الأراضي المصنفة أثرية، ثروة لأصحابها لأن الدولة تستملكها بأسعار عالية إلا في بعلبك فهي نقمة، إذ أنها تبشر أصحابها بالفقر لعدم إمكانية استثمارها وبيعها وعدم التعويض على أصحابها أو استملاكها من قبل الدولة بأسعار مناسبة، والدولة هنا مطالبة بإيجاد مخرج لهذه الأملاك ليستفيد اصحابها منها".
ولفت نائب رئيس بلدية بعلبك إلى معضلة كبرى وهي نقل الآثار التي وجدت في المدينة إلى خارجها، وكأن أهل بعلبك حراس بالسخرة لهذه الآثار! وقال: "من المفترض أن تبقى هذه الآثار في المدينة، وأن تشكل مصدراً جديداً لتنشيط السياحة ومادة تاريخية لاقامة مشاريع ثقافية أو على الأقل بناء متحف لعرض المكتشفات التي يتم العثور عليها".
وأكد أن الدولة مطالبة باستعادة كل الآثار التي سرقت من بعلبك، ونقلت بشاحنات الى قصور المسؤولين وحدائقهم، سواء كان ذلك في الجبل أو بيروت أو غيرها، وهذه الآثار يمكن أن يراها من يريد أن يرى!.
تحقيق وتصوير: عصام البستاني
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018