ارشيف من : 2005-2008
من اوراق الجرائد...7/6/2005
صحيفة السفير:
انتخابات الجنوب: السور الواقي
كتب جوزف سماحة
دلّت انتخابات الجنوب على أن المنافسة ليست شرطاً للتعبئة. لقد كانت التعبئة حاضرة لأن المنافسة لم تكن تجري ضمن الدائرة ولا ضمن الطائفة. كانت الطائفة تريد مخاطبة الآخرين لتقول لهم رأيها بموقعها وخياراتها. ولم تكن تملك وسيلة لذلك أكثر بلاغة من الإقبال الكثيف على الاقتراع. فهو وحده يدعو الآخرين إلى أخذها بالحساب. إن أهمية انتخابات الجنوب من وجهين: نسبة المشاركة أولاً، وتوزع الأصوات ثانياً.
النتيجة المشتركة لهذين الوجهين هي توجيه رسالة إلى الداخل. والاحتفالات التي عمّت المحافظة دليل فرح بنجاح الشيعة الجنوبيين في إيصال كلمتهم إلى الطوائف التي تخوض معاركها الانتخابية في دوائر ومحافظات أخرى. نحن أمام "لبننة" لشعار شهير في أميركا اللاتينية: "إن شعباً موحداً لا يُهزم". فهذا الشعار يغدو في ترجمته المحلية: "إن طائفة موحدة لا تُهزم". فكيف إذا كانت موحدة إلى هذا الحد، وكيف إذا انسكب حوالى تسعين في المئة من المقترعين في هذا الجسم الغريب ذي الرأسين.
لقد بات يمكن، لمن يريد، الاطمئنان إلى أن موقع الرئاسة
الثانية في العهد الجديد سيكون قوياً. كذلك يمكن الاطمئنان إلى أن سلاح المقاومة بات محمياً أكثر. ولقد كان الخوف الشيعي مبرراً على هذين الصعيدين. فالواضح أن تركيبة المجلس الجديد كانت ستطوّق نبيه بري ولو أنه متحالف مع قواها البارزة والراجحة. وربما هناك من اعتبر أن باب منافسته بات مفتوحاً وأنه سيكون الطرف الضعيف في منظومة السلطة الجديدة. كما أنه من الواضح أن احتمال تشكيل نصاب سياسي على مسافة من "حزب الله" وارد جداً خاصة في ظل الوصاية الدولية التي ترعى التوازنات وتضع "السلاح" في خط المرأى. طرد الشيعة خوفهم المزدوج عبر تعويذة صناديق الاقتراع.
لقد قرأنا وسمعنا كثيراً، بالأمس وقبله، عن "المحدلة". ليس التفسير كافياً ولا هو مقنع. نعم إن التوافق بين الأجسام الكبيرة يلغي التمايز. ونعم إن قدرة الاختراق تتضاءل. ولكننا لسنا بحاجة إلى المراقبين الدوليين لإدراك أنه لا وجود لبند في الوصفة الديموقراطية يمنع راشدين من التحالف بملء اختيارهم حتى لو أدى ذلك إلى تضاؤل فرص التعبير عن التعددية. والأهم من ذلك أن القرار القيادي في "أمل" و"حزب الله" تلاقى مع مزاج شعبي شيعي بدا شديد التطلّب له والحاجة إليه. إن 2 إلى 3 في المئة فقط من الذين اقترعوا أقدموا على استخدام حقهم في إعادة تشكيل اللوائح (التشطيب) بما يحسم (خلافاً لانتخابات بيروت إلى حد ما) أن ما يطيب لهم فعلاً هو الصعود إلى هذه "المحدلة" الموجهة، أساساً، إلى الطوائف الأخرى التي تمتلك مثيلاً لها، وليس إلى قوى الاعتراض المنتمية، عرفاً، إلى الطائفة المعنية نفسها.
إن الاستنفار الشيعي الداخلي أطاح المواقع الأخرى ضمن الطائفة برغم أنها لا تعترض على المقاومة والسلاح. بدت هذه المواقع بصفتها عنصر إضعاف للاحتشاد. فكل صوت يذهب إلى اليسار مثلاً، أو المستقلين، إذ يعزز التعددية ضمن الطائفة يضعف من موقع الطائفة في إطار التعددية اللبنانية. فاليسار الذي يعبّر عن تيار عابر للطوائف، وداعم لشكل محدد من وحدة البلاد، بدا، هذه المرة، اختراقاً غير مرغوب فيه، في هذه اللحظة، يقلل من حظوظ طائفة معينة في حفظ حقوقها زمن تغيير الدول والسياسات. إن "القرار" هو أن الحماية، وفق الطريقة اللبنانية، تتم عبر الموقع الطائفي الواقعي وليس عبر النسيج الوطني الافتراضي. إن اليسار، بهذا المعنى، ليس قوة مضمونة كما هي حالة حزب البعث (مرشحه فاز بالتزكية) أو الحزب القومي. ولعل الدليل أن الحزب الشيوعي وحلفاءه كانوا أقرب إلى ما سمي "القوة الثالثة" متجنبين الانخراط في "عين التينة".
تطرح النتائج الجنوبية سؤالاً كبيراً عن اليسار وموقعه. لقد تراجع كثيراً قياساً بالماضي. وهو تراجع سيترك آثاراً ملموسة على المعارك السياسية والنقابية التي تلوح في المستقبل.
واليسار المقصود، هنا، هو اليسار الذي رفض أن يتخندق وعزل. واليسار الذي تخندق وعزل أيضاً قبل أن يتم الاستدراك. لنقرأ هذه الفقرة من "برنامج حركة اليسار الديموقراطي للانتخابات التشريعية العام 2005"، تقول: "لقد وثق اللبنانيون بقيادة المعارضة يوم كان خطابها وسلوكها متطابقين بالتأكيد على تلازم معركة السيادة والإصلاح، ويوحيان بالثقة، وعلقوا عليها الكثير الكثير من الآمال. ولم يطل بهم الوقت ليصابوا بخيبة أمل نتيجة الانصراف السريع لمعظم طيف المعارضة للانغماس بمصالحهم الفئوية الضيقة، وإجرائهم الصفقات السرية، ما حوّل خطابهم إلى نوع من المخادعة لا يتلاءم لا مع الشعارات التي يطلقونها ولا مع الوعود التي سبق وقطعوها للناس. وليس المشهد الانتخابي القائم قانوناً وممارسات، إلا تجسيدا لحالة التعارض مع آمال غالبية أهل 14 آذار". كان ذلك قبل فتوى المقعد الماروني في طرابلس. والقصد من إيراد المقطع "البرنامجي" (!) هو التأكيد على أن اليسار بحساسيته يعاني مأزقاً سواء كان ذلك مأزق العزلة أم مأزق الالتحاق.
شهدنا الأحد الماضي نموذجاً عن الحالة الأولى وسنشهد الأحد المقبل نموذجاً عن الحالة الثانية.
يتماثل التوحد الشيعي، في ما يخص حراك الطوائف، الحالتين الدرزية والسنية، وربما يتفوّق عليهما في درجة التعبئة الداخلية التي يشهدها والتي تعبّر عن استباق خطر قادم أو، على الأقل، لما يعاش بصفته كذلك.
يبدو المشهد المسيحي مفتتاً أمام التمركز الشيعي والسني والدرزي. ولكن يمكن ترجيح وجود تطلب شعبي لقيادة اقتحامية. والعنوان الحساس هو الرد على قدرة "الحزب" و"الحركة" ووليد جنبلاط وسعد الحريري على اختيار "مسيحيين" عبر خطاب يصر على عبور الطوائف نحو اختيار "مسلمين".
يخطئ مَن لا يرى في انتخابات الجنوب سوى الرسالة إلى الداخل. إنها، أيضاً، رسالة إلى الخارج الذي ارتضى التوافق الرباعي، وقانون الألفين، والحكومة الحالية وإجراءاتها. كان الوضع الشيعي في حساب هذا الخارج ولو أن النتائج الجنوبية فاقت التوقعات. إنها تبدو مثل تظاهرة 8 آذار. لقد سبق لها أن جعلت موضوع السلاح معلقاً إلى ما بعد الانتخابات. إلا أن حصول الانتخابات، وبهذا الشكل، قذف "التعليق" إلى ما بعد، ووضع دول الوصاية أمام سؤال صعب: ما العمل إذا وافق اللبنانيون على ممارسة الطائفة الشيعية حق النقض ضد تطبيق ما تبقى من القرار 1559؟ نعرف الجواب إذا لم يوافق اللبنانيون: سنكون أمام أزمة وطنية خطيرة. ولكن لا جواب واضحاً في حال الموافقة، وفي حال رفض الاصطدام بالسور الواقي حول المقاومة وسلاحها.
صحيفة السفير:
"القلق الشيعي" انعكس كثافة وتماسكاً وفضيحة تصيب اليسار ..والتقليد إلى انحسار
انتخابات الجنوب: تجديد لبري وغطاء أهلي للمقاومة
كتب إبراهيم الأمين
ما حصل في الجنوب كبير، وكبير جداً، وأي اعتراض سياسي على قانون الانتخاب أو على طريقة تأليف اللوائح، لا يلغي حقيقة أن ما حصل يوم الخامس من حزيران يشكل تحولاً استثنائياً في الإدارة السياسية لواحدة من أكبر طوائف لبنان ولمنطقة تمثل نقطة التقاطع الاستراتيجي لموقع لبنان الإقليمي.
والملاحظات التي يمكن إيرادها في معرض قراءة ما حصل، تتناول كل شيء ما عدا صعوبة سوف تواجه الباحثين عن سر التعبئة التي جعلت الجنوبيين والشيعة منهم على وجه الخصوص، يُطلقون موقفاً لا يشبه البتة المواقف التي ملأت البلاد منذ الرابع عشر من آذار، ولا يعني هذا الكلام أن هذه الفئة تعترض بأن لا ترى مصلحة في خروج سوريا من لبنان، لكنها لا تلتقي مع القوى السياسية التي بدت في انتخابات بيروت ضعيفة التمثيل، ولكنها أقرب إلى المناخ السياسي الذي يقول بأن لبنان لا يزال يسير بقوة نحو الانتقال من حقبة ومناخ إلى حقبة أخرى ومناخ آخر.
والحصاد الهائل الذي حققه تحالف "أمل" و"حزب الله" لا يلغي حقيقة أن النصاب السياسي لم يكتمل جنوباً بعد. وخطأ التحالف الاستثنائي كان ولا يزال في عدم القدرة على تحمل فكرة شريك إضافي، ولو كان حجمه صغيراً بحجم القوة التجييرية التي أظهرها الشيوعيون على انقساماتهم المزرية. لكن الخطأ يمكن العثور عليه في الأصوات التي نالها المقاوم أنور ياسين والتي مثلت عيّنة من احتجاج، ثمة ما هو شبيه له ولكنه مكبوت عند جمهور غير قليل من جمهور المقاومة.
انتهت الانتخابات، وحصل ما حصل. ولن يكون أنور وما يمثله في هذه اللحظة السياسية غريباً عن واقعه، وهو لن يشعر بأن فوز الآخرين المنافسين يمثل خسارة لخطه السياسي. وهو الأقرب إلى المنطق الذي يعرف حجم المداخلات والتدخّلات المقبلة على لبنان، وحيث سيكتشف الآخرون أن أنور سيكون مرة جديدة في المقدمة.
والملاحظات التي يمكن إيرادها حول العملية الانتخابية في دائرة الجنوب كثيرة، لكن عنصر الشبه الفعلي بينها وبين انتخابات العاصمة يكمن في وجود عدد من الفائزين بالتزكية وخصوصاً في الأوساط المسيحية والسنية. ووجود دعوات إلى المقاطعة في الأوساط المسيحية، ووجود تكتل قوي بين المتحالفين الأقوياء ما منع أي فرصة لفوز الآخرين.
أما ما يميّز الجنوب عن بيروت فيتصل بأن الجنوبيين كانوا أمام استحقاق خاص، يتصل أولاً بحالة من القلق تسود الأوساط الشيعية منذ وقت غير قصير، وهي تعاظمت بعد التطورات الأخيرة التي انتهت إلى إخراج سوريا من لبنان وهي التي كانت رافعة قوية للصعود الشيعي السياسي في الدولة. كذلك تعرّض المقاومة، وهي الورقة الاكثر قوة وحيوية عند هذه الطائفة و"حزب الله" أي القوة الحاملة لهذه المقاومة الى ضغوط غير عادية داخلياً وخارجياً.
ومع ذلك، فإن صراعاً عنيفاً قام بين برودة كانت متوقعة بسبب فوز سهل ومناخ اعتراضي على تكرار القوتين البارزتين لآلية التحالف ذاتها برغم ما حصل في البلاد من تطورات، وبين حماسة لافتة في تسجيل أعلى نسبة تصويت لها هدف سياسي يتصل بإشعار الآخرين، من شركاء في الدولة ومن معارضين ومن دول الوصاية الجديدة أن ما يُخطط له بما خصّ الجنوب كمنطقة استراتيجية وما يستهدف القوى الحيوية فيه، سواء على مستوى المقاومة أم على مستوى الحضور في الدولة، هناك آليات لمواجهته تستند أولاً الى قاعدة تمثيلية حقيقية لها وزنها الشعبي غير العادي ولديها آلياتها المختلفة.
كذلك كان لافتاً أن هذه المعركة تُخاض بتكاتف غير مسبوق بين القوتين البارزتين، اللتين تصرّفتا انتخابياً بما يتجاوز الأرث الثقيل من الخلافات والحروب الكبيرة بينهما، حتى أن مراجعة لعدد الأصوات التي تقدّم بها مرشحو حزب الله عن مرشحي حركة أمل وتبيان مواقعها الجغرافية، يظهر أن الذين شطبوا الرئيس بري ومرشحي أمل هم أولاً من خارج الدوائر الشيعية، ثم هم ثانياً من القوى السياسية التي تعتقد أنها اقرب إلى "حزب الله" منها إلى حركة "أمل"، وهو أمر برز في القرى والمدن والبلدات ذات الحضور الخاص لقوى من اليسار أو التقليد إضافة إلى مدينة صيدا. وهذا يشير إلى حقيقة جديدة ربما تحتاج إلى تفسير ودرس، وتتعلق بالتزام حديدي لا سابق له من جانب محازبي ومناصري الطرفين بالتصويت للائحة من دون حملات تشطيب. كذلك عدم القيام بأي نوع من المبادلات الانتخابية التي تحصل عادة في بعض القرى والبلدات او مع بعض القوى والشخصيات ذات الحضور الانتخابي. وهو دليل على نجاح غير عادي علماً أن قيادتي الحركة والحزب وبتدخل وإشراف من الرئيس بري والسيد حسن نصرالله قامتا بنشاط لافت بين الكوادر والقواعد. حتى ان بلدة مثل جبشيت، وفيها قتلى كثر جراء الحروب بين التنظيمين وكان التصويت فيها مختلف كلياً في الدورات السابقة، إلا أن التصويت فيها هذه المرة عكس بصورة كبيرة نوعية التحالف والتماسك. اذ اقترع 2959 ناخباً في البلدة، وحصلت لائحة الحزب والحركة على 2900 صوت.
ويكفي للتدليل على أهمية ما حصل وتماسك الناخب الشيعي لاعتبارات مختلفة، مراقبة الأرقام التي خرجت بها الانتخابات. حيث نجح التحالف في جذب 303175 مقترعاً من اصل 666191 ناخباً في دائرتي الجنوب. وبرغم أن الأوراق الملغاة بلغت 4604 أوراق في الدائرتين. فان ما حصلت عليه اللائحتان الفائزتان كان بحده الأقصى (107853/154056/ 261909 أصوات) وبحدها الأدنى (99539 /149307/ 248846 صوتاً). بينما حصل الخاسرون على حد أقصى هو (19646 /15737 / 35383 صوتاً) وحد أدنى هو (6784 /4408 / 11192 صوتاً).
ومن الملاحظات اللافتة نمط التعئبة التي سادت الناخب في مدينتي صيدا وجزين، حيث أفلحت ماكينة النائبة بهية الحريري وماكينة النائب أسامة سعد في حشد نسبة اقتراع عادية وكأن هناك منافسة قوية، وبدت مقاطعة الجماعة الإسلامية من دون تأثير جدي. بينما نجح نواب جزين برغم التزكية والمقاطعة والحملة السياسية وحتى الدينية المركزة ضد النواب الثلاثة وضد قانون الانتخاب وضد التحالف القائم، في تأمين اقتراع يطابق ما حصدته اللائحة نفسها في الدورة السابقة. حتى أنه لو جرت الانتخابات على أساس القضاء لكان الفريق المقاطع يحتاج إلى تعبئة غير ممكنة في الشارع لتوفير نسبة اقتراع تواجه الفريق الآخر. وفي المحصلة كرّرت صيدا إشارتها القوية بأنها عاصمة الجنوب المقاومة، وهو رصيد سيُضاف إلى ما لديها عند الجنوبيين، كما أن جزين أعطت إشارة جديدة على اقترابها من المناخ الإجماعي في الجنوب ككتلة جغرافية وديموغرافية.
في المقابل، يمكن إيراد ملاحظات على تصرّف ونتائج القوى المنافسة، والتي اختلفت اصلاً في ما بينها قبل أن تشكل تحالفاً سياسياً او انتخابياً. ومع ان رياض الاسعد يعتبر النتيجة جيدة له، وهو يتصرف على اساس انه كان حاملاً لرفاقه في اللائحة وليس محمولاً منهم، وهو امر يحتاج الى بعض التدقيق، فان النقاش الاصلي سوف يتكرر عند الشيوعيين والمناخ اليساري الذي بدا انه يخسر آخر قلاعه في هذا البلد. برغم انه اعتمد على خطاب عاقل من الناحية السياسية، وبرغم انه رشح شخصية لافتة ومحل تقدير مثل انور ياسين وتحاكي العقل الجماعي عند الجنوبيين الذين يصوّتون علناً لمصلحة المقاومة، الا ان النتيجة التي خرج بها هذا الفريق يمكن تمييزها بين نسبتين من الاقتراع. الاولى في الدائرة الاولى حيث حصد انور ياسين 8450 صوتاً وهي لا تمثل بتاتاً القوة التجييرية للحزب، بدليل ان انور حصد كمية كبيرة من الأصوات من غير الشيوعيين ومن مستقلين. بينما حصل المرشح الآخر وهو حسين صفي الدين على 6784 صوتاً وهو لم ينل أي صوت من أنصار رياض الاسعد بإقرار الاخير، كما انه حاز على اصوات ذات طابع عائلي من صور ومن اصدقاء له في صيدا وقرى الجوار، ما يشير الى ان القوة التجييرية للشيوعيين في الدائرة الاولى لا تتجاوز الاربعة آلاف صوت.
اما النسبة الثانية فتخصّ الدائرة الثانية حيث حصل كل من سعد الله مزرعاني على 8886 صوتاً وعلي الحاج علي على 8456 صوتاً. وهي نسبة متقاربة، لكن العدد هو تجميع لعملية التبادل التي جرت مع الشركاء في اللائحة ومع بعض المرشحين المنفردين، ويمكن مراقبة ما حصل عليه عباس شرف الدين الذي احترم من قبل المحازبين الشيوعيين وانصارهم المقربين وهو 4408 أصوات. ما يعني ايضا ان القوة التجييرية للحزب الشيوعي في الدائرة الثانية لا تتجاوز الخمسة آلاف صوت.
واذا ما جرى التدقيق في حالة الانقسام داخل هذا التنظيم القوي والتي دفعت قسماً غير قليل الى الامتناع عن التصويت للائحة واقتصار التصويت في الدائرة الأولى لأنور ياسين، فإن غياب البرنامج السياسي الموحّد وغياب المحفّزات الحقيقية وغياب الشخصيات الجاذبة، كل ذلك من شأنه أن يظهر الصورة على ما ظهرت عليه. وهو امر له فوائده، اذ لو كان الأمر مختلفاً في التحالفات لكانت النتيجة تائهة مرة جديدة، وأخّرت حساباً داخلياً في الوسط اليساري لا بد أن يكون أولوية.
على أن ما يحتاج الى بعض المتابعة هو التصويت المصلحي القائم في أوساط "التقليد القديم" وهو الامر الذي يمكن ملاحظته من اصوات كل من بشرى الخليل (الدائرة الأولى) 4399 صوتاً و احمد كامل الأسعد ( الدائرة الثانية) 8404 أصوات. وفي هذا اشارة الى انه ليس امرا سهلا ان يحصد احمد الاسعد اصواتاً توازي اصوات المرشحين الشيوعيين. علماً ان هناك عوامل مختلفة أدّت الى هذه النتيجة.
على أي حال فان انتخابات الجنوب تعكس اموراً مختلفة، فهي ثبتت الرئيس بري في رئاسة المجلس النيابي لولاية جديدة، وهي أعطت "حزب الله" مكانة متقدّمة لا سابق لها. وهي وفّرت أكبر استعراض للقوة تجريه الطائفة الشيعية في لعبة الطوائف المتنقلة الآن بين اللبنانيين... على أن رسالتها الأكثر حيوية هي المتصلة بما ينتظره الغرب في مرحلة ما بعد الانتخابات حيث يقول الاميركيون إنهم ينتظرون من السلطة الجديدة أن تبادلهم الخدمات بأن تنزع سلاح المقاومة بأسرع ما يمكن.. أي عودة الى سياسة الاوهام التي تقود أحياناً إلى نوع من الجنون الذي يترجم فتناً وحروباً وما هو أقسى من ذلك.
صحيفة الشرق:
انتخابات الجنوب: رسالة وموقف
كتب عوني الكعكي
الدورة الثانية من الانتخابات النيابية عكست حالاً شعبية جامعة حول المقاومة، بما يعتبر موقفاً لافتاً يستطيع لبنان وضعه في اطار الدفاع عن موقفه في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل.
ما جرى عملية ديموقراطية بامتياز، والجنوبيون بطوائفهم ومذاهبهم كافة، عبّروا عن موقفهم الثابت والمسلّم به، وينسحب ذلك قطعاً على لبنان بكل أطياف شعبه وتوجهاته، ما يعني في نهاية المطاف ان الجنوب اقترع لنهج وخط، لا لأشخاص أبداً.
... يحضرني هنا ان «تفاهم نيسان» الذي تم توقيعه عام 1996 بجهد جبار من الرئيس الشهيد رفيق الحريري أعطى لهذه المقاومة شرعيتها لبنانياً وعربياً ودولياً، وحتى الاسرائيليون اكتشفوا اضطرارهم للموافقة على هذا التفاهم، وتنفيذ بنوده لسببين رئيسيين، أولهما حجم المقاومة وعملياتها النوعية التي استنزفت الجيش الاسرائيلي، وحطمت معنوياته، وثانيهما القدرات التي قام بها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وتحركه على الصعيد الدولي، ما أوجد تعاطفاً أوروبياً مع المقاومة، انسحب بصورة أو بأخرى على المجتمع الدولي، وان بطريقة متفاوتة.
... من هنا أيضاً نقرأ تحركات النائب السيدة بهية الحريري يوم الانتخاب، إذ لم تهدأ طوال اليوم الانتخابي، فقامت بالتجوال في صيدا لدعوة الصيداويين للذهاب إلى صناديق الاقتراع، والقول بـ«نعم» كبيرة للنهج المقاوم، وصيدا كانت وفية، وبادلت الوفاء بالوفاء، ففاجأت العالم بنسبة المقترعين العالية، علماً ان مرشحيها بهية الحريري واسامة سعد كانا قد فازا بالتزكية.
... ان فوز لائحتي «المقاومة والتحرير والتنمية» في محافظتي الجنوب والنبطية بنسب مرتفعة ـ حيث تجاوز عدد الأصوات التي نالها كل مرشح المائة وخمسين ألفاً ـ هي مفصلية في المسار اللبناني على الصعد كافة، والأرقام التي سجلت لها دلالاتها ومغازيها، ولعل أهمها على الاطلاق هو «لبننة» سلاح المقاومة، على اعتبار انه شأن داخلي لبناني، ما أفشل المحاولات الإسرائيلية لتدويل هذا السلاح بهدف نزعه، وقد سبق ذلك تصريح النائب المنتخب سعد الحريري أثناء زيارته إلى أميركا، والذي أعلن فيه ان «حزب الله» هو مقاومة وليس منظمة ارهابية، وان سلاحه شأن داخلي لبناني.
... لقد ترجم الجنوبيون كل ذلك باعلان الـ«نعم» الكبيرة للمقاومة، شيعة وسنّة وموارنة وارثوذكس وكاثوليك، كلهم اقترعوا على امتداد الساحل من صيدا الوفية عاصمة المقاومة إلى صور والناقورة، صعوداً نحو جبل عامل وحواضره، جزين والنبطية وبنت جبيل وجديدة مرجعيون وحاصبيا، وكل بلداته وقراه ودساكره.
... وبصدق وأمانة، نسجل هنا ان الانتخابات في الجنوب ـ كما كانت في بيروت ـ تمت بأسلوب ديموقراطي هادىء، ولم تقع اي اشكالات تذكر، على الرغم من الأعداد الهائلة للمقترعين.
... المسألة هنا لم تكن صراعاً بين مرشحين ولوائح، بل كانت منافسة واستفتاء على نهج المقاومة.
... لقد استحضرت هذه الانتخابات كل طاقات اللبنانيين، وأظهرت خطأ الذين كانوا يروجون لحساسيات مذهبية، فصيدا السنّية اقترعت بكثافة، كما صور والنبطية الشيعيتان، ومغدوشة وجديدة مرجعيون المسيحيتان اقترعتا كما بنت جبيل والعرقوب.
صحيفة الانوار:
قراءة مختلفة في انتخابات الجنوب
رؤوف شحوري
انتخابات الجنوب، والنسبة المرتفعة وغير المتوقعة في الإقبال على صناديق الإقتراع، تظهر واقعاً جديداً يستحق تسمية أخرى غير (المحدلة)، والإصرار على هذا الوصف هو نوع من التبسيط الساذج والظالم. مر الجنوبيون (ونتحدث هنا عن الشيعة تحديداً) في مراحل تاريخية متعاقبة غيرت واقعهم الى أن وصلوا الى ما هم عليه اليوم. وتعبير (ما هم عليه اليوم) ملتبس ويحتاج الى ايضاح. وفقهاء علم السياسة خارج الطائفة يتبارون في اصدار الفتاوى حول هذه الحالة. وظهر أخيراً من يحاول الافتاء من داخلها، ولكنه سرعان ما انكفأ وتراجع ولو في الظاهر. ولفهم حقيقة الحال لا بد من مراجعة سريعة تتيح تلمس الخيط الذي يصل الماضي بالحاضر.
مر الشيعة في ثلاث حقب مفصلية. الاولى كانت منذ الاستقلال والى أواسط الستينات مع وتأسيس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى. وفي تلك الحقبة كانت (المحدلة) تسمى بالاقطاع السياسي للزعامات التقليدية التي انحسرت وتلاشت مع الوقت. والثانية كانت من أواسط الستينات والى اقرار وثيقة الوفاق الوطني في الطائف واقرار الدستور الذي حمل اسمها. وقد خيم ظل الإمام الصدر على الحياة السياسية اللبنانية الى تاريخ غيابه خلال احتدام الحرب، وقد وضع ركائز النهج المستمر الى اليوم مع خلفائه.
وفي تلك الحقبة تقبلت الغالبية الشيعية الساحقة طروحات الإمام الصدر: الاسلام المعتدل، الانفتاح على الآخر، ترسيخ الوحدة الوطنية، حوار الثقافات وتعاونها عبر الحوار الاسلامي - المسيحي، والحوار الاسلامي - الاسلامي، انصاف المحرومين من كل الطوائف والنهوض بالحياة الاجتماعية، عروبة لبنان وارتباطه بجذوره القومية، غرس روح المقاومة ضد العدوان الاسرائيلي ونزعته التوسعية عندما اطلق الإمام الصدر نداءه الشهير (السلاح زينة الرجال) في بعلبك، ثم أسس (أفواج المقاومة اللبنانية) (أمل). وعندما وقع الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 كانت تلك الروح في أوج توثبها وعنفوانها فتأسس (حزب الله) بهدف وحيد هو طرد الإحتلال ومنع العدوان.
أما الحقبة الثالثة فبدأت منذ مطلع التسعينات في ظل الطائف والى تاريخ الانسحاب السوري من لبنان. وفي تلك الحقبة حدث تمايز في الصف الشيعي: (أمل) كانت من ركائز الحكم داخله، و(حزب الله) كان من ركائزه خارجه. واستمر الطرفان على أوثق العلاقات مع دمشق ولكن لاسباب مختلفة، وان جمعهما الجوهر: المقاومة. وتنعمت (أمل) بالحكم، واكتفى (حزب الله) بما يضمن سلامة معركته ضد اسرائيل. وبعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري كان (حزب الله) أول من أدرك الأبعاد العميقة لهذا الزلزال وارتداداته ومحتواه الدولي والخارجي، وقد أدرك انه خسر بغيابه دعماً لا يعوض.
كان (حزب الله) قبل ذلك يعتمد على قوته الذاتية، وعلى مظلة انخراطه في استراتيجية الدولة ورئيسها العماد اميل لحود، وعلى الوحدة الوطنية الداخلية التي دعمت بكل اطيافها معركته لتحرير الارض من الاحتلال الاسرائيلي، وعلى بعده الاقليمي، وعلى قوى المقاومة والتحرر في العالمين العربي والاسلامي، وفي المدى الانساني أيضاً. وبعد الخروج السوري من لبنان وواقع استهدافه دولياً، كان على الحزب ان يعتمد على نفسه أولاً، وعلى تشكيل (نواة صلبة) في المجتمع اللبناني الذي تعصف به المتغيرات.
بادر السيد حسن نصرالله على الفور الى تشكيل هذه النواة جنباً الى جنب مع (أمل) ورئيسها نبيه بري، مع سلسلة من المصالحات المثيرة داخل الصف الشيعي، ومد الجسور بعد ذلك في كل اتجاه بدءاً بدار الفتوى، وتيار المستقبل وحليفه جنبلاط والبطريركية المارونية وغيرها. وكان منطق الحزب في ذلك ان (الوحدة الوطنية) في حال ترسخها قادرة على احباط المخطط الخارجي. وفي حال فشلها سيكون من الصعب كسر هذه (النواة الصلبة) دون التسبب باخطار فادحة على مستوى المنطقة أيضاً.
انتخابات الجنوب كانت تنطوي كذلك على رسالة ضمنية هي أن قوة المقاومة قادرة على انتاج ظاهرة ساحة (الاسكوا) عند الحاجة، في حين يتكاثر الذين يتساءلون اليوم عن مصير الظاهرة الخارقة: 14 آذار...
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018