ارشيف من : 2005-2008
انتخابات بيروت: نجاح انتخابي واستفتاء غير مكتمل
بدت انتخابات بيروت كأنها مقطوعة الصلة بما قبلها، فانتخابات يراد لها ان تكون تأسيسية لمرحلة جديدة بالكامل ومثقلة بالكثير من القضايا الساخنة، ويفوح من بعضها رائحة الدم وتنهض على استنفار استثنائي للحس الطائفي والمذهبي معاً، وتستدعي خطاباً سياسياً المعترض فيه على الانتخابات مقاطعة او إدلاءً برأي سلبي محكوم عليه بالرجم، ومنفي سلفاً الى دائرة الجلادين، انتخابات من هذا النوع يفترض ان ترفع من درجة المشاركة الشعبية الى الحد الأقصى.. إلا ان الذي حدث هو العكس تماماً.
ويمكن تبرير ذلك بالكثير من الأسباب: سوء القانون 2000 نفسه، المقاطعة المسيحية عموماً والأرمنية تحديداً، غياب الخصم الحقيقي، وبالتالي افتقاد الانتخابات للعوامل المحرضة على التحشيد، فوز أكثر من نصف أعضاء لائحة الحريري الابن بالتزكية، غياب الانسجام عن صورة الائتلاف الانتخابي لسعد الحريري، حيث حملت هذه الصورة أسماءً لا تروق لمزاج الشارع البيروتي.
كل هذا يمكن ان يكون صحيحاً، ولا يمكن بالتالي التقليل من أهميته، إلا ان شيئاً من التأمل في هذه الأسباب سيقود الى أسئلة لا يمكن تجاهلها بسهولة، كما ان كل ما تقدم لا يكفي وحده لتبرير ما جرى.
من الأسئلة التي تفرض نفسها هنا، وهي أسئلة سياسية بامتياز: لماذا كانت المقاطعة المسيحية؟ هل هي بالفعل تعبير عن موقف من القانون 2000، أم هي لأمر آخر؟ إذ لو كانت المقاطعة تعبيراً عن موقف سلبي من القانون 2000، لكان من المفترض ان تكون المقاطعة عامة، ولا تقف على منطقة دون غيرها، الأمر الذي يبقي للاعتراض مضموناً آخر، وهو مضمون أُعلن عنه صراحة أثناء تشكيل اللوائح التي قادت في ما بعد الى إحداث تعديل في الأسماء. الاعتراض هنا هو ليس فقط على ما يجري الآن، وإنما هو تأسيس لما هو آتٍ.. فثمة خشية مسيحية من أن تكون المرحلة المقبلة محكومة بمعادلة إسلامية، وهذه الخشية تعبر عن مأزق مركب بحجة معادلة واحدة تتمثل بإعادة إنتاج الصراع الداخلي على قاعدة إسلامية ـ مسيحية.. ما يعني ضمناً أيضاً أن المأزق الطائفي هو الى المزيد من الاحتدام، وإن جرى الآن تجاوز إجراء الانتخابات ـ لضرورات ـ في وقتها. هذا المأزق تكمن خطورته الكبرى في كونه العائق الأكبر أمام أي محاولة لوضع اتفاق الطائف على سكة التطبيق العقلي. أضف الى ذلك: من المسؤول عن عدم توفير شروط معركة انتخابية فعلية، وهي شروط تبدأ بقانون الانتخابات وتمر بالخطاب السياسي والإعلامي والانتخابي المعتمد، وتنتهي بالتوجهات السياسية الرامية الى شطب أي قوى ذات تمثيل رمزي وفعلي من المعادلة. فعندما تكون شروط خوض المعركة مختلفة بالكامل لمصلحة طرف دون آخر، من الطبيعي أن نكون أمام مشهد انتخابي بارد الى درجة الصقيع.
ثم إن كل التبريرات الآنفة لا يمكن بحد ذاتها أن تضعف من زخم الحماسة التي توفرها قضية استشهاد الرئيس رفيق الحريري، وكل العناوين السياسية الأخرى التي وُضعت أهدافاً للحملة الانتخابية، إلا إذا افترضنا ان الأسباب الآنفة باتت أقوى من قضية هي بهذا الحجم، وهذا ما لا تذهب اليه. ما يعني حكماً ضرورة البحث عن الأسباب الفعلية لغياب الحماسة الانتخابية، وهي أسباب بالتأكيد ليس لها صلة بالحاضر فحسب، وإنما لها آثارها البعيدة المدى، التي يُفترض ان تؤخذ منذ الآن بالحسبان، لتفادي الوقوع في أي خطأ في المستقبل.
ومن الطبيعي أيضاً أن الانتخابات التي يراد لها ان تكون استفتاءً او بيعة أكثر منها انتخابات، من الطبيعي ان تدار بطريقة تؤدي الى واقع غير انتمائي.
إن المسافة بين الفوز في الانتخابات وعدم نجاح الاستفتاء على النحو المشتهى، هي مسافة نصيحة تحتفظ بها بيروت لنفسها، بانتظار حسم الخيارات السياسية التي يريدها البعض لها، والتي تجدها بيروت لنفسها.
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018