ارشيف من : 2005-2008
تقرير برامرتز الثاني:لغة تقريرية تعيد الاعتبار للاحتمالات المستبعدة
بعيداً عن لهجة التحدي والاستفزاز التي اتبعها القاضي الألماني ديتليف ميليس في تقريريه الشهيرين، قدّم خلفه البلجيكي سيرج برامرتز تقريره الثاني في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، للأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان والمجتمعين اللبناني والدولي، بلغة إخبارية تقريرية رصينة وحرفية مهنية جعلت السياسة تلعب خارج سور التحقيق، ووفرت استيفاء الشروط القانونية لاستكمال القضية بكلّ تفرّعاتها ومجالاتها وميادينها، من دون استنتاجات متسرّعة واتهامات مسبقة.
خلت سطور التقرير الثاني لبرامرتز من الذخيرة التي أعطت في السابق دفعات معنوية غير منتظرة لقوى 14 شباط/فبراير التي كانت تتوقّع مفاجآت غير مريحة للضباط الأربعة ومن خلفهم رئيس الجمهورية العماد إميل لحود وسوريا، ولكنّ رهاناتها سقطت دفعة واحدة، فلم تجد في هذا التقرير ما يشفي غليلها السياسي، لذلك استقبلت التقرير ببرودة ووجوه "ناشفة" لأنّه كان دون طموحاتها ورغباتها وخاوياً من الإشارات والتلميحات، وأبقى الباب مشرّعاً أمام كلّ الاحتمالات بما فيها تلك التي كانت مستبعدة لغايات سياسية.
وما يؤكّد ابتعاد النَفَس السياسي عن مضمون التقرير الأمور الأربعة التالية:
* إشادته بالتعاون السوري "الذي حققّ مزيداً من التطوّر"، مع أنّ سوريا سهّلت مهمّة لجنة التحقيق الدولية منذ انطلاقتها وحضورها إلى لبنان والمنطقة، وهو ما لم يعجب خلفية ميليس السياسية.
* إثباته بما لا يقبل التأويل النظرية القائلة بأنّ التفجير حصل فوق الأرض وليس تحتها، وهو ما كان "النظام الأمني اللبناني السوري المشترك" قد أكّدها في تقاريره المرفوعة للقضاء.
* استبعاده أيّ ذكر للشاهدين السوريين محمد زهير الصديق وهسام طاهر هسام، وما نشره الأول من دسائس "مدفوعة الأجر" جعلته موجوداً في كلّ مراحل الجريمة، إعداداً ومراقبة وتجربة وتنفيذاً، ما حوّله إلى متهم ترفض فرنسا تسليمه للقضاء اللبناني أو تسمح له باستجوابه في خرق واضح لطلب مجلس الأمن من كلّ الدول التعاون مع التحقيق.
* إسقاطه أسماء الضبّاط الأربعة اللواءين جميل السيّد وعلي الحاج والعميدين ريمون عازار ومصطفى حمدان، فلم يأت على ذكرهم على الإطلاق، بينما استخدمهم ميليس "طعماً" قد يؤدّي ـ بحسب رؤيته وما تكشّف لاحقاً من رواياته ـ إلى انهيار الفاعلين ممن عرفوا بالسطوة الأمنية والممسكين بالوضع السياسي في السنوات الماضية، وهو ما لم يحصل، فيما هؤلاء الضباط يرزحون في سجن "رومية" المركزي بناءً على توصية ميليس التي تفتقد إلى الشرعية القانونية المدموغة بعلاقتهم بالجريمة.
وترى أوساط متابعة للتحقيقات بحذافيرها، انه بعدما استنفد أيّ رابط بين هؤلاء الضباط وجريمة الاغتيال، وللحيلولة دون إطلاق سراحهم لما لذلك من تأثيرات سلبية على فريق السلطة الحالية والأكثرية الحاكمة، صار يتمّ سوقهم، وبفترات متقطعة، للإدلاء بإفاداتهم كشهود في جرائم واغتيالات أخرى شهدها لبنان بين شهري تشرين الأول/ أكتوبر 2004، وكانون الأول/ ديسمبر 2005، وهذا ما يعتبره وكيل الدفاع عن اللواء السيد المحامي أكرم عازوري في حديث مع "الانتقاد" دليلاً إيجابياً على انتفاء أيّ دور لهم في قضية الحريري، ويؤكّد في الوقت نفسه، أنّ الغاية الأولى والأخيرة من توقيفهم هي سياسية بامتياز.
ويطالب وكيل الدفاع عن اللواء الحاج نقيب المحامين الأسبق عصام كرم في حديث مع "الانتقاد"، بالإفراج الفوري عن الضباط الأربعة "الذين لم يذكرهم التقرير، فيما التقارير السابقة ذكرتهم بدون أي دليل ، فإلى متى تبقى قائمة توصية ميليس تلاحقهم كما اللعنة؟".
وفي قراءة لفحوى التقرير يمكن التوقّف عن بعض النقاط الهامة والتي تسترعي الانتباه أكثر من سواها وهي:
أولاً: تلفت الفقرة الخامسة والأربعون من تقرير برامرتز الثاني الأنظار لجهة قولها إنّ اللجنة "تواصل مع مكتب المدعي العام اللبناني التحقيق في مصدر شاحنة "الميتسوبيشي" وطبيعة امتلاكها وحركتها منذ وقت امتلاكها حتى وقت الهجوم"، وهو ما يتطابق مع معلومات، وفقاً لمصادر قضائية، تفيد بأنّ الشاحنة المذكورة التي استخدمت في التفجير، أدخلت عبر مرفأ طرابلس في الشمال، وأنّ شخصين مجهولين تابعا إجراءات إخراجها رسمياً مستعملين إخراجي قيد مزوّرين، وذلك للتضليل والتمويه، وهذا ما يؤخّر في كشف هويتهما ومعرفتهما. وتكثّف النيابة العامة التمييزية من تحقيقاتها مع الأجهزة الأمنية المعنية لعلها تمسك بطرف خيط يقودها إلى جلاء الغموض المحيط بكيفية وصول هذه الشاحنة إلى لبنان من اليابان عن طريق دولة الإمارات العربية المتحدة.
ثانياً: يشير التقرير في الفقرتين 26 و27 إلى العثور على المزيد من الأدلة داخل الحفرة العميقة التي خلّفها الانفجار في محلة عين المريسة في بيروت، ما يرسم علامات استفهام كثيرة حول دور ميليس وفريق عمله في كيفية التعاطي مع مسرح الجريمة، فطالما أنّه تمّ اكتشاف عناصر جديدة كانت مدفونة في الحفرة، فهذا يعني أنّ مسح ميليس لهذا المسرح لم يكن شاملاً وحسيّاً ودقيقاً، وبالتالي فبماذا كان يهدر وقته؟
ثالثاً: يقول التقرير في الفقرة 54 إنّ اللجنة "ونظراً إلى تعدّد نشاط رفيق الحريري ومواقعه البارزة تنظر في الحوافز السياسية واحتمال الثأر الشخصي والعوامل الاقتصادية والعقائد المتطرّفة"، ثمّ يقول في الفقرة 57 إنّ "اللجنة لا تزال تطوّر معرفتها المتعلّقة بالأشخاص الذين كانوا أو الذين هم معتقلون لدى السلطات اللبنانية بصفتهم أعضاءً في مجموعات إرهابية"، وهذا ما يفسّره المتابعون للتحقيق على أنّه ليس هنالك من استبعاد لوقوف جهات إرهابية وراء الجريمة وضلوع أشخاص موقوفين ضمن شبكة تنظيم "القاعدة" في لبنان فيها، باعتبار أنّ لجنة التحقيق اهتمّت منذ شيوع خبر توقيف هؤلاء في شهر كانون الأول/ديسمبر 2005، بالحصول على نسخة من أوراق التحقيقات الأولية المجراة معهم لدرسها والتمعّن فيها واستخلاص المفيد منها وسماع أقوالهم ثانية. ويبدو أنّ برامرتز أرجأ عملية سماع أفراد هذه الشبكة إلى المرحلة المقبلة لأنّ ذلك لم يحصل خلال الفترة الفاصلة بين صدور تقريره الأول في 15 آذار/مارس 2006 وتقريره الثاني، ولو فعل لاستفاض في الحديث عنهم سلباً أو إيجاباً، وخصوصاً أنّه ألمح إليهم في تقريره الأول. وهذا يعني أنّ برامرتز يرفض التخلّي عن أيّ احتمال قد تساوره الشكوك والظنون حوله، لأنّ كلّ شيء في علم الجريمة وارد ولا يمكن الاستغناء عنه إلا بعد التحقّق من عدم أهميته.
رابعاً: يدعو النقيب عصام كرم القاضي برامرتز إلى قراءة كتاب الألماني يورغن كولبل "اغتيال الحريري أدلّة مخفيّة" لجهة ما ورد فيه عن أن أجهزة الحماية في السيارات التي كان يركب الحريري واحدة منها ممكنة التعطيل من الشركة الأم، ومعروف أنّ الشركة الأم في "إسرائيل"، وقد اتصل المؤلّف بأحد أصحاب الشركة، فأفاده بأنّ هذه الشركة تصنع الأجهزة المعطّلة، وأنّه كان يعمل مع جهاز "الموساد" الإسرائيلي.
ويقول كرم إنّ واجب التحقيق يقتضي استدعاء مؤلّف الكتاب والخبير الذي اعتمده المؤلّف واستشهد بكلامه لسماعهما، وذلك للتحقّق من صحّة ما قال كلّ منهما.
فهل يقوم برامرتز بهذا الأمر ويسدّ نواقص في تحقيقاته تحتاج إلى المزيد من التمحيص والتدقيق، خلال فترة السنة التي منحت له تمديداً لمهمته، واعتبر في موجز تقريره أنهّا "توفر حسّ الاستمرار والاستقرار، وتتيح تخطيطاً وعمليات متقدّمة وتوفّر تطمينات لأفراد اللجنة"؟
علي الموسوي
الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1166 ـ 16 حزيران/يونيو 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018