ارشيف من : 2005-2008
احتجاجات المازوت تعوّم الأزمات الاجتماعية:المشكلة في أولويات الحكومة والسياسات الاقتصادية الخاطئة
مرة أخرى تأسر المطالب المعيشية المواطن وتضيق عليه الخناق بعدما أثقلت الظروف السياسية التي يعيشها لبنان كاهله ووضعته أمام خيارات مرة بعد نفاذ صبره وصراخه الذي لم يصل إلى آذان الحكومة المنشغلة بأولويات أخرى. ولعل ارتفاع سعر صفيحة المازوت الذي فجر غضب المواطنين ودفعهم عفوياً إلى الشارع على أبواب الشتاء ليتدثروا بالحرامات الصوفية تعبيراً عن معاناتهم أو ليتدفأوا على الإطارات المطاطية المحترقة على الطرق احتجاجاً، هو الجزء الظاهر من جبل الجليد، بينما الجزء المخفي أكبر وأعظم، وهذا يعني أنه حتى لو استجابت الحكومة مكرهة لمطلب تثبيت سعر صفيحة المازوت على 12 ألف ليرة، تبقى الأزمة الأساسية المرتبطة بسياسة الحكومة الاقتصادية والمالية قائمة من دون حلول، وبالتالي إمكانية تفاقم الأوضاع وبروز أزمات اجتماعية متكررة بين حين وآخر.
الملاحظ في الأزمة المطلبية الأخيرة أنها ناتجة بالدرجة الأولى عن الأداء الحكومي المتجاهل لمطلب تخفيض سعر صفيحة المازوت على الأقل في فصل الشتاء، برغم المناشدات والمطالبات العديدة المتكررة شعبياً في العديد من المناطق، بعدما وصل سعر صفيحة البنزين إلى حدود 20 ألف ليرة، مع ما يعني ذلك من أعباء على أصحاب الدخل المحدود والطبقات في ظل الضائقة الاقتصادية التي تعيشها البلاد.
وحجة الرفض الحكومي لهذا المطلب كانت كل مرة تتمحور حول المقولة الشهيرة بأن أي تخفيض لسعر صفيحة المازوت ستنتج عنه حتما زيادة في عجز الخزينة، وبالتالي ارتفاع في حجم الدين العام، وكأن المطلوب من المواطن اللبناني أن يدفع من جيبه في كل مرة ثمن سياسات الهدر التي تتبعها الحكومات من خلال الاستدانة بالعملات الصعبة لتغطية عجزها والصفقات التي تجريها على حساب المواطن.
تجاهل
لا بل إن الحكومة تمادت في تجاهل هذا المطلب وإيلاء الوضع الاقتصادي برمته الاهتمام اللازم والهروب إلى الأمام ورمي الكرة في ملعب الآخرين، وكأن المشكلة في مكان آخر، وهو ما ظهر جلياً وبشكل واضح في الجلسة النيابية ما قبل الأخيرة عندما طالب العديد من النواب تخفيض سعر المازوت، فجاء الرد من قبل رئيس الحكومة بأن أي مس بسعر صفيحة المازوت سيقابله رفع سعر صفيحة البنزين! علماً أن تثبيت الأخيرة تطلب جهوداً مضنية من قبل الهيئات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الفترة السابقة، وظهرت بوضوح أيضاً مطالبة الرئيس السنيورة وزير الطاقة والمياه محمد فنيش إعداد الاقتراحات اللازمة والبدائل المقابلة لدعم صفيحة المازوت والنتائج المترتبة على ذلك مالياً، على أن تتضمن اقتراحات الوزير أفكاراً وبدائل عن كيفية تأمين البدائل المالية اذا قررت الحكومة دعم المازوت.. في حين أن فنيش أكد لـ"الانتقاد" أن الحكومة هي المعنية بتحمل كلفة الدعم، مشيراً إلى أن دعم المازوت إذا كان سعر الصفيحة 14 ألف أو 15 ألف ليرة يكلف خزينة الدولة بحدود 45 مليار ليرة بعدما كان متوقعاً بنحو 90 مليار ليرة.
وأكدت مصادر نيابية شاركت في الاجتماع الأخير لكتلة نواب بعلبك الهرمل مع الرئيس السنيورة، ما ذهب إليه الوزير فنيش، لافتة إلى أن السنيورة قد رمى بالمواربة الكرة في ملعب الوزير فنيش عندما طالب الأخير بإعداد اقتراحات وأفكار وبدائل عن كيفية تأمين البدائل المالية، وتذكيره المجتمعين بأن دعم صفيحة المازوت يكلف الدولة ما يناهز الـ100 مليار ليرة.
الواضح أن أداء الحكومة لا يضع المطالب الاجتماعية ضمن أولياتها، وهذا ما أشارت إليه العديد من القوى السياسية والنقابية وأكده الوزير السابق إلياس سابا لـ"الانقاد" عندما قال: "ان القضية ليست قضية عجز في الموازنة العامة أو ارتفاع حجم الدين كما تدعي الحكومة، بل هي قضية أولويات لدى الأخيرة التي ترى أن تخفيض سعر صفيحة المازوت ليس من أولوياتها"، محمّلاً النواب مسؤولية مناقشة الحكومة في أولوياتها عندما يجري التصويت على الموازنة العامة.
يشوعي
ويرد الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي سبب الأزمة الأخيرة إلى سياسات الحكومة قائلاً لـ"الانتقاد": "إن الديون المترتبة على خزينة الدولة جعلت هذه الأخيرة غير قادرة على دعم سلع حيوية مثل المازوت، ولو كانت هذه السياسة سليمة ومنطقية وواقعية لكانت خزينة الدولة قادرة على دعم سلع استهلاكية واسعة بشكل كبير".
ويعتقد يشوعي بأن سياسات الحكومات المتعاقبة قد عرّت الخزينة من كل مقومات الدعم"، لأنه لا يمكن أن تطلب من خزينة مفلسة الدعم! ويشير إلى أن "خفض سعر المازوت وخفض العبء الضريبي وتقوية الاستهلاك وخلق فرص عمل هي أمور مرتبطة بشكل مباشر بسياسة الفوائد التي تنتهجها الدولة، وهي سياسة عفى عليها الزمن منذ العام 1971، إضافة إلى سياسة البنك المركزي والسياسة النقدية المتبعة.. هذه الاعتبارات استنفدت كل الطاقات الاقتصادية أو في القطاع العام أو في القطاع الخاص، ما يعني بعبارة أخرى أن الخزينة فقدت أي إمكانية أن تلعب أي دور اجتماعي، وبالتالي هناك معادلة واقعية تقول عندما نفكر بدعم أي مادة ومنها المازوت، فهذا يعني أننا أمام استدانة جديدة، لأنه لم يعد لدينا "خميرة " يمكن أن نركن إليها، لكون الفوائد أطاحت بكل شيء!
هذه "المعادلة" الصعبة التي أوجدتها سياسات الحكومات المتعاقبة، يمكن النفاذ منها على حد قول يشوعي من خلال خفض الفوائد، تنظيم السياسة النقدية، إطلاق سراح السيولة، تشجيع الاستثمار في البلد لخلق فرص عمل، وتعزيز مستويات الأجر.. عندئذ يواجه الناس هذه الارتفاعات الحاصلة في سعر صفيحة المازوت وحدها.
ويقترح يشوعي على الحكومة لتأمين تمويل تخفيض سعر المازوت زيادة الرسوم الجمركية على السلع المستوردة من الدول التي تصدر سلعاً أقل كلفة من تلك التي ينتجها لبنان مثل الصين والهند وبنغلادش، فبدل أن يدّخر لبنان سنوياً مبلغ يقارب 900 مليون دولار سنوياً، بإمكانه ـ فيما لو ركن إلى هذه الفرضية ـ أن يحصل ما مقداره مليار و800 مليون دولار.. فمن جهة نعزز الصناعة الوطنية المنكوبة حالياً، ومن جهة ثانية نعزز إيراداتنا التي من شأنها أن توظف في تقديم الخدمات الاجتماعية مثل تخفيض سعر المازوت. و"لكن يقال لنا دائماً وباسم العولمة إنهم غير قادرين على المساس بالرسوم الجمركية (5% على كل السلع ومن أي دولة).
ويتابع يشوعي: "إن التظاهرات الأخيرة في العديد من المناطق اللبنانية ليست وليدة ساعتها وليست ناتجة عن ارتفاع سعر صفيحة المازوت التي كانت بمثابة النقطة التي جعلت الكوب يفيض، انما عائدة إلى السياسات الاقتصادية الخاطئة.. هناك رزمة من السياسات لا احد يتحدث عنها بدءاً من السياسة النقدية والضريبية إلى سياسة إدارة الدولة لأملاكها العامة ولإداراتها الرسمية، فإذا لم يُعَد النظر بمجملها عبثاً عمل ندعم هنا أو هناك .. ما يحصل اليوم هو عملية ترقيع لا أكثر ولا أقل".
وماذا عن الكلام الذي سيق مؤخراً عن أن الحكومة في صدد اقتراح إنشاء صندوق لإعالة الأسر المعدمة والفقيرة بناءً على مسح شامل أُنجز بالتعاون مع البنك الدولي، يعلق يشوعي بالقول: "هم يضحكون علينا لسبب وجيه، هو عدم قدرتهم على فعل أي شيء، فأمام الحكومة مستحقات مالية لعامي 2006 و 2007 وتقدر بنحو 4 مليارات دولار، وهم في صدد استصدار سندات خزينة جديدة لتأمين هذه المستحقات، وبالتالي البلد مرهون إلى العام 2020!
الاتحاد العمالي العام
ولا يبتعد كثيراً الاتحاد العمالي العام في نظرته إلى سبب الأزمة الأخيرة، وسبق لهيئة المكتب التنفيذي أن رفعت الصوت قبل الاحتجاجات الأخيرة ورفعت توصية ضمنتها خطوات عملية، بما فيها الاعتصام والتظاهر والإضراب بكل الوسائل المتاحة لوضح حد للسياسات المجحفة في حق محدودي الدخل والعمال.
ويعلق رئيس الاتحاد غسان غصن بشيء من الاستهجان على كلام السنيورة حول ما هو مطلوب اذا جرى دعم صفيحة المازوت.. يقول: "الحكومة ليست وظيفتها المحاسبة بل أن تهتم بقضايا الناس بما لا يؤدي إلى مزيد من الفقر والحاجة والعوز. واردات الخزينة يفترض أن تؤمن من خلال الضرائب التصاعدية والأرباح والمنافسات العقارية وسندات الخزينة، لا من جيوب الناس، وهي لا تحتاج إلى من يدلّها على تأمين الواردات، فلديها وزراء جهابذة فليذهبوا ليفتشوا في مكان آخر غير جيوب الفقراء، خصوصاً أن 80 % من واردات الخزينة تتغذى من جيوب هؤلاء".
لكن غصن الذي يتحضر لاتخاذ خطوات على الأرض في الأيام المقبلة بالتشاور مع مختلف الإتحادات والقطاعات الإنتاجية، يلتقط "طرف الخيط" الذي يُوصل إلى المكمن الحقيقي للهدر الذي ـ برأيه ـ يستنزف مقدرات الخزينة، وهو "صناديق المجالس" ،"إيدال" ، "مشاريع دراسات"، "التوظيفات المالية التي تقدر لمصلحة سندات الخزينة بـ30 مليار ر دونما أن تضع الحكومة "نقطة فائدة" عليها، والتي إذا ما أُخذ بها لوفرّنا إيرادات تقدر بـ300 مليون ليرة، في حين أننا لا نحتاج إلى دعم المازوت أكثر من 20 إلى 30 مليون دولار.
هذا على "الورق" في الشارع، فالاتحاد يعد العدة للنزول بكل قوته، "حتى يفرض على الحكومة إيجاد العلاج الملائم بشأن المطالب التي نرفعها ومن بينها، تخفيض سعر المازوت لأن وظيفة البحث عن حلول هي من اختصاص الحكومة".
ويقول غصن: إن تحرك الاتحاد سيكون على مستوى لبنان ككل، "لأن البرد لا يطال فقط أبناء بعلبك، وإنما أيضاً أبناء الجبل وأبناء كسروان والشريط الحدودي وأبناء الساحل".
ويشير غصن إلى مطالب أخرى للإتحاد تتجاوز تخفيض سعر صفيحة المازوت لتصل إلى مطالب مزمنة تبدأ من تصحيح الأجور إلى الإصلاح النظام الضريبي، إلى مواجهة تفكيك الدولة من خلال التعاقد الوظيفي، إلى موضوع الضمان الاجتماعي وشبكة الآمان الاجتماعية، مستغرباً كلام الحكومة عن إيلاء الشأن الاجتماعي الأولوية المطلقة، بينما هي تسعى إلى تفكيك التكافل الاجتماعي من خلال السير في مشروع التعاقد الوظيفي.. ويسأل: أين هي أموال الضمان المستحقة على الدولة اللبنانية، والتي تقدر بنحو 100 مليار ليرة؟ ألم تأكل الضرائب المباشرة 40% من قيمة الأجور، ألم تلتفتوا إلى أن هناك إجراءات ضريبية جديدة، منها زيادة الضريبة على القيمة المضافة من 10 % إلى 12 % !.. بمعنى أننا كمن يلحس المبرد".
حسين عواد
الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1136 ـ 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2005
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018