ارشيف من : 2005-2008

التحرك المطلبي المستمر:لبنان يستعيد قضاياه

التحرك المطلبي المستمر:لبنان يستعيد قضاياه

نجح التحرك الشعبي ـ المطلبي الذي انطلقت بوادره مؤخراً من مدينة زحلة وعموم منطقة البقاع، وبمواكبة تحركات تستعد لها الهيئات النقابية، في فرض نفسه بقوة على "أجندة" الاهتمامات الداخلية من اعلامية وسياسية.‏

أهمية هذا النجاح تكمن بالدرجة الاولى في اعادة الاعتبار الى القضايا الحياتية والمطلبية التي يكتوي المواطن اللبناني بنارها وسط تجاهل رسمي وسياسي يكاد يكون مطلقاً، هذا التجاهل الذي قد يكون مفهوماً في فترة سياسية سابقة، حيث انشغل اللبنانيون بكل أطياف قواهم السياسية في جملة من التطورات والاستحقاقات السياسية البالغة الدقة والخطورة في انعكاساتها المتنوعة على حاضر ومستقبل لبنان، بدءاً من القرار 1559 الذي شكل أول مدماك دولي للتلاعب بالتوازنات الداخلية، ولوضع لبنان تحت مظلة الوصاية الدولية عموماً والاميركية تحديداً، ومروراً بعملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وصولاً الى تشكيل لجنة التحقيق الدولية برئاسة القاضي الألماني ديتلف ميليس، وانتهاءً بالقرار 1636، وما بينهما من تقارير، أقل ما يقال فيها إنها مسيسة بامتياز الى أقصى الدرجات.‏

لقد بات من مجمل التطورات الآنفة أن هناك من يحاول حبس لبنان في اطار أولويات "الأجندة" السياسية الاميركية تحديداً و"الأجندة" الفرنسية الى حد ما. وبالتالي، وضع أي "أجندة" لبنانية حقيقية تمس الشعب اللبناني في الصميم في الثلاجة حتى إشعارٍ آخر.‏

وبهذا الاعتبار، اذا كان من معنى سياسي للتحركات الشعبية الأخيرة فهو يكمن في كونها تعيد فرض أحد أهم وأخطر القضايا اللبنانية الصرف على "أجندة" الاهتمام السياسي والاعلامي، الرسمي والنقابي والحزبي والشعبي، وبالتالي بات هناك صوت لبناني يقول بصوت عالٍ نحن هنا، وحان الوقت لنخرج من دائرة النسيان الى دائرة التذكر، ومن دائرة الاهمال الى دائرة الاهتمام، ومن الظلام الى الضوء.‏

أما النجاح الثاني، فيتمثل في كون القضايا المطلبية والحياتية والشعبية، تعيد بناء عملية التفاعل الحقيقي بين المستوى الشعبي والمستوى السياسي بعد حالة الطلاق الطويلة التي حكمت العلاقة بين الاثنين لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها الآن. ان هكذا تحركات والمرتكزة على قضايا حقيقية تعيد، على الأقل، تذكير الدولة بأول واجباتها تجاه مواطنيها، واعادة برمجة وظيفتها ودورها على هذا الأساس. هذه المسألة تكتسب أهمية استثنائية اليوم في ظل الاستغراق، الذي بات يهيم به البعض، في "الأجندة" السياسية الاميركية التي أدخلت لبنان، أو وضعته في أقل من عام، على شفير أكثر من فتنة وصراع ان لم نقل حرب: القرار 1559 جوهره استدراج اللبنانيين الى فتنة داخلية، هو بامتياز مشروع فتنة، وفي أدنى المستويات، بذرة انقسام وخلاف، فيروس تفتيت داخلي على كل المستويات، تقرير ميليس الأخير، والقرار 1636، وضعا لبنان في حالة صراع مع سوريا، بين ليلة وضحاها باتت سوريا هي العدو، وعلى الأقل، باتت هي الخصم، وفجأة أخذت تنبش كل الدفاتر العنيفة ليس أقلها مطلب ترسيم الحدود، ولا آخرها الاصرار الاميركي ـ الميليسوي على استجواب الضباط السوريين في لبنان، هذا الاصرار غير البريء، لأن جوهره النهائي، هو تحويل لبنان ليس مكاناً للتحقيق، وانما مكان للتوقيف والمحاكمة، وبالتالي تحويل لبنان نهائياً الى موقع العدو بالنسبة لسوريا.‏

لقد تمكنت بعض المواقف العقلانية حتى الآن من منع النيات الاميركية من بلوغ غاياتها النهائية. لكن، هذا النجاح يبقى نجاحاً نسبياً وموقتاً، لأن مناعة العديد من القوى الأساسية في لبنان ازاء الضغوط الاميركية أو الاغراءات الاميركية، وحتى ازاء شهواتها الخاصة، لا تبدو محصنة أو قوية بالقدر الكافي. لقد كان تقرير لارسن مناسبة لكشف الكثير، وقيل ما قيل توضيحاً له، زاد الموقف التباساً، ولم يقل ما يطمئن، ان لم نقل انه أثار الكثير من المخاوف. واذا اضيفت الى هذه الأمور الكيفية التي تدار بها الأمور في العديد من الوزارات والمؤسسات المحسوبة على بعض التيارات السياسية، فإن الشكوك تكبر، حيث سنجد أنفسنا امام استباحة سياسية تجعلنا نترحم على المرحلة السابقة.‏

ولا نغالي اذا قلنا، ان الحملة الاعلامية ـ السياسية على التحرك الشعبي الأخير، والتي تشنها قوى سياسية معروفة، تصب في مصب الشكوك الآنفة. فأصحاب هذه الحملة، وبالرغم من اقرارهم بأحقية هذا التحرك، وبأحقية مطالبه، الا أنهم سرعان ما يشنون عليه حملة افتراءات وأكاذيب، لتشويه مضمونه، ومحاصرته بعلامات استفهام باطلة، وكأن المطلوب ان يجوع الشعب اللبناني بصمت، وان يعطش بصمت، وان يمرض بصمت، وان يدفن تحت ركام الحاجة والعوز بصمت، وان لا تصدر عنه مجرد كلمة تأوهٍ واحدة. وبالتالي، هؤلاء يريدون أن يبقى لبنان حبيس "الأجندة" الاميركية المفروضة على لبنان، وان لا يخرج أحد عن أمر اليوم الاميركي.‏

مصطفى الحاج علي‏

الانتقاد/ زوايا ـ العدد 1136 ـ 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2005‏

2006-10-30