ارشيف من : 2005-2008
إعادة الاعتبار لمرفق "تنهاشته" المحسوبيات والهدر والفساد : "خطة الطريق" لإصلاح الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي...
ما إن أنهى وزير العمل طراد حمادة مؤتمره الصحافي الذي عقده مطلع هذا الأسبوع، وضمّنه خطته لإصلاح الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي حتى تهافتت عليه الاتصالات من كل حدب وصوب، لا سيما من قبل الإطراف المعنية بهذا الملف سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو نقابية، وذلك للتهنئة بالإنجاز النوعي الذي طالما انتظره اللبنانيون بفارغ الصبر منذ عقود طويلة، وخصوصاً أن أي خطة من هذا القبيل من شأنها أن تطال مصالح مليوني لبناني، وأن الخطة الإصلاحية هذه تناولت أهم مرفق حيوي وعلى علاقة مباشرة بالمواطن اللبناني.
الخطة الإصلاحية التي أعلن عنها الوزير حمادة تقوم على أقانيم ثلاثة: المحافظة على الضمان، وإصلاحه، ومن ثم تطويره، وهذه الخطة شكلت تحدياً قاسياً بالنسبة للوزير الذي دأب منذ أن استلم مهام الوزارة للمرة الثانية على العمل على إعداد خطة تعيد الاعتبار لهذا المرفق الذي "تنهاشته" المحسوبيات والهدر والفساد، وبات قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس بعدما كان يشكل خط الدفاع الأول بالنسبة للسواد الأعظم من اللبنانيين، حيث يقدر عدد المنتسبين إلى الضمان بفروعه المختلفة ما يزيد عن مليون ونصف مليون منتسب، ما يعنى أن معركة إصلاح الضمان لن تكون بالأمر اليسير، وهو ما أشار إليه الوزير حمادة أثناء إعلان الخطة عندما قال "ليعرف الجميع أن أي محاولة لمنع الضمان من الإصلاح ستعني ضرب هذه المؤسسة"، وفي مكان آخر قال "من يقف في وجه الضمان يجب أن يعرف أن معركته خاسرة".
لم يكن التحدي الذي أظهره وزير العمل في مؤتمره الصحافي وليد ساعته، بل كان الأرضية التي انطلق منها مع معاونيه لوضع اللبنة الأولى لمشروع الخطة. ومن هنا جاء من قال إن أهم ما في الخطة هو القرار الجريء الذي اتخذه الوزير، واستباقه كل محاولات "تفخيخ" الخطة كما كان يحصل في الخطط السابقة، وخصوصاً أن هذا المرفق لم يشهد منذ أربعين عاماً أي محاولة تطوير أو تفعيل تتلاءم والتطورات الاجتماعية والاقتصادية.
المقاربة الجديدة لمنظومة العمل في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تفترض أن هناك علاقة جديدة بين هذا القطاع والمواطن تقوم على الثقة المتبادلة، بعدما همشتها التدخلات السياسية والهدر غير المسبوق الذي تسبب بعجز مالي ضخم للصندوق دفع ببعض أركان الحكم للمطالبة بخصخصة هذا القطاع وتحويله إلى شركة تأمين خاصة.
والواضح أن وزير العمل استند في خطته إلى مسألتين أساسيتين على ما تقول مصادر معنية بهذا الملف. الأولى، القرار السياسي المتخذ من قبل حكومة السنيورة والذي شكل الغطاء الأساسي لأي خطوة من هذا النوع، وخصوصاً أن الرئيس السنيورة سبق أن طرح في اجتماع لحكومته عقب البيان الوزاري ثلاثة تحديات من بينها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. والمسألة الثانية، الشفافية التي يتمتع بها الوزير حمادة، وقد دلت بعض الخطوات الجريئة التي قام بها سابقا على ذلك.
وفي إطلالة مختصرة على أهداف الخطة الإصلاحية للضمان يتضح أنها تتضمن هيكلية إدارية جديدة، مكننة الضمان، إدارة سليمة للموارد البشرية، تحديث القوانين والأنظمة، إعداد رؤية مالية، تحقيق التوازن المالي، وضم شرائح جديدة.
ويقول وزير العمل طراد حماده تعليقاً على خطته لـ"الانتقاد" إن أول أسباب نجاح عملية الإصلاح هو ضرورة الإصلاح، لأنه لا يمكن لأي فئة معينة الاستغناء عن الضمان، لأن استمرار الفساد في الصندوق الوطني للضمان يعني نهاية الضمان وتفتته من الداخل، وبالتالي عندما تفكّر بالإصلاح من الضروري أن تجد من يقف إلى جانبك بهذه الخطوة.. هذا في المبدأ، لكن هناك من لا يريد أن يعمل إلا بضمان فاسد... لذا وضعنا خطة مدروسة تترافق مع إصلاحات هيكلية داخل الضمان، تبدأ بالجسم الإداري مروراً بإطلاق الرقابة، والضخ في الكادر البشري، والمكننة، وصولاً الى عمليات إصلاحية أخرى.
حمادة أطلق على مشروع الإصلاح اسم "خطة الطريق"، وهو يسعى بجهد كبير إلى تنفيذ هذه الرؤية الإصلاحية الشاملة "لتصبح فيما بعد ملك الرأي العام اللبناني، وبالتالي لا يستطيع أحد بعدها أن يتنكر لها أو يعمل على إفسادها".
هذه الثقة الكبيرة بالنفس يقابلها حمادة بشيء من الخشية من إمكانية وضع عصي في الدواليب لأن هناك برأيه "الكثير من النفاق السياسي" الذي تضج به البلاد، غير أن هذا لا يمنعه من المثابرة ودفع الأمور إلى الآخر، "لأننا نحن في الحكومة لا نطرح أفكاراً ثم ندير ظهرنا ونتركها لمشيئة الآخرين. نحن سنبقى ندافع عن أفكارنا الإصلاحية داخل الحكومة والبرلمان وفي الحياة العامة للوصول إلى نتيجة، وطبعاً ضمن الحوار السياسي والتفاهم".
ولئن كانت التركيبة الحالية لإدارة الضمان يشوبها الكثير من الفساد والترهل، وبالتالي لا يمكن الركون إليها لتنفيذ هكذا خطة، كان لا بد من "وضع أكثر من سيناريو، وهي متروكة لمجموعة معطيات ستظهر في القريب العاجل" على حد قول حمادة.
وأضاف "إن الخطة الإصلاحية ستسير بشكل تتابعي وتكاملي، بمعنى أن المسائل التي يفترض أن تسير دفعة واحدة سيأخذ بها على هذا النحو. أما المسائل التي تحتاج لخطوات متتابعة سيجري التعامل معها وفق هذه الرؤية. مثالاً على ذلك ما يتعلق بالهيكلية الإدارية، إذ أن هناك مجموعة من المفاهيم في عملية إصلاح الهيكلية الإدارية مستفيدين بذلك من طرق عديدة معتمدة في عدد من الدول وخاصة فرنسا التي اتفقنا مع المسؤولين فيها على تقديم تجربتهم الخاصة في هذا المضمار".
بدوره المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الدكتور محمد كركي وصف الخطوة بالطموحة، خصوصاً أنها تأتي ولأول مرة بهذه الجرأة المعهودة من الوزير حمادة الذي "أكد أن لا حمايات سياسية أو محسوبيات ستقف في وجه إصلاح الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي".
وهو أبدى إعجابه بهذه الخطة لشموليتها، وأمل أن يكون المناخ السياسي السائد في البلاد عاملاً إضافياً على توفير التغطية اللازمة لمثل هكذا خطوة "خصوصاً أنها تشمل إصلاح الإدارة، والمكننة، والضمان الصحي، وزيادة تقديمات الضمان، إلى زيادة في شرائح المستفيدين من الضمان، وخلافه".
وهو يفترض أن المناخ السياسي تغير مع المستجدات التي طرأت على الساحة اللبنانية و"لم يعد بالامكان التستر وراء أي خطوة تهم المواطنين بالدرجة الأولى".
وعليه، يعتبر كركي أن بوادر ايجابية بدأت تلوح في الأفق من خلال إمكانية تعيين الأطباء المراقبين والمعاونين المحاسبين عن قرب، والذين مضى على نجاحهم في المباراة التي خضعوا لها ما يقرب الأربع سنوات دون تعيينهم من قبل مجلس إدارة الضمان، وهي خطوة ستنعكس إيجاباً على تفعيل الرقابة في عمل الضمان بهدف التسريع في دفع المستحقات المتوجبة على المستشفيات والمضمونين التي يعتريها التأخير.
والخطة الإصلاحية التي وضعها الوزير حمادة كانت خلاصة تصورات كل من: مجلس إدارة الضمان الاجتماعي، والمدير العام للضمان، واللجنة الفنية، ونقابة مستخدمي الضمان، والهيئات الاقتصادية، والنقابات العمالية، ومؤسسات الدراسات والأبحاث، ومنظمة العمل الدولية والبنك الدولي، وهي ستكون موضع اجتماعات متتالية ودورية بين الجهات المعنية لأجل تنفيذ مرحلة تلو مرحلة، وسيشهد الأسبوع المقبل اجتماعات عدة بهذا الخصوص بين إدارة الضمان وسلطة الوصاية والجهات التي على علاقة بالضمان بشكل مباشر وغير مباشر.
وقف العمل بالضمان الاختياري
في موازاة إطلاق الخطة الإصلاحية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يشهد الضمان الاختياري معضلة من نوع آخر، وهي تعليق العمل بالمادة السادسة من نظام الضمان الاختياري، وهو يعني وقف قبول طلبات الانتساب الجديدة إلى قسم الضمان الصحي الاختياري لمدة شهر (بدءاً من 1/10/ 2005 إلى 1/11/2005) أو أكثر لحين إيجاد حل تأميناً للتوازن المالي، وخصوصاًً أن الصندوق غير قادر على تأمين المستحقات في الفترة المحددة سواء للمضمونين أو للمستشفيات.
ويقول كركي: "نحن قرّرنا أن لا نعيد فتح باب الانتساب للجدد لأنه يهمنا أن نحافظ على المنتسبين القدامى، ونجد الطريقة الملائمة لتأمين التوازن المالي لهم. وللأسف كما تعلمون أن بعض المستشفيات يمتنع عن استقبال المضمونين الاختياريين بسبب التأخر في تأمين مستحقاتهم بسبب عدم توافر الأموال اللازمة في الصندوق الذي هو عبارة عن صندوق مستقل، ونحن نعاني من مشكلة إقناع المستشفيات لاستقبال المضمونين الاختيارين لأنها تفترض أن عليها أن تنتظر فترة طويلة للاستحصال على مستحقاتها، لأجل ذلك نحن ارتأينا أن نبقي على المنتسبين الموجدين حالياً ريثما نجد حلاً".
والحل برأي كركي ليس رفع الاشتراكات من المعدل الحالي 9% إلى 15% فحسب "إنما الحل في أن تتحمل الدولة العجز في الضمان الاختياري ليستمر لأنه في مطلق الأحوال هؤلاء الأشخاص إن لم يستفيدوا من الضمان الاختياري فسيلجأون إلى تقديمات وزارة الصحة دون أن يدفعوا اشتراكات، وما دامت الدولة تساهم في وزارة الصحة فمن الأجدى أن تساعد الضمان الاختياري، وإلا لن يكتب له الاستمرار".
وحتى المرسوم الذي أصدره مجلس إدارة الضمان بشأن رفع معدل الاشتراكات من معدل 9% إلى 15% وعاد وألغاه مع أسبابه الموجبة لن يجدي نفعاً باعتراف كركي "لأنه إذا ما بقينا نستمر في آلية رفع الاشتراكات سنجد بعد فترة أن الأشخاص الذين لا يعانون من أمراض صحية سيتركون الضمان الاختياري ويبقى من هم يعانون، وخاصة أصحاب الأمراض المزمنة، وبالتالي ليس هناك من حل سوى أن تلجأ الدولة إلى مد يد المساعدة لسد العجز في الضمان الاختياري".
ولكن ماذا إذا لم تفتح الدولة "صرّتها"؟
يؤكد كركي "نبحث عن سبل أخرى لم تتبلور بعد".
حسين عواد
الانتقاد/ تحقيقات ـ العدد 1131 ـ 14 تشرين الاول/ اكتوبر 2005
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018