ارشيف من : 2005-2008

لاسا... حكاية حرمان: من "عرش للآلهة" إلى "عرش الإهمال الرسمي"

لاسا... حكاية حرمان: من "عرش للآلهة" إلى "عرش الإهمال الرسمي"

الانتقاد/ محليات- 1128- 23 أيلول/ سبتمبر 2005‏

لاسا... عرش الآلهة (باللغة السريانية) أو الطبيب الشافي كما ذكرها الأديب اللبناني أمين ريحاني في كتابه "قلب لبنان".. هذه البلدة الوادعة على كتف وادي نهر إبراهيم تتنازعها سمتان: الفقر والإهمال الرسمي الذي يبدأ ولا ينتهي بالرغم من أنها تصنّف في خانة قرى الاصطياف.‏

في الطريق إلى بلدة لاسا (في قضاء جبيل) التي تبعد عن العاصمة بيروت نحو 52 كيلومتراً يتراءى أمامك مشهد البلدات التي بدت عليها مظاهر الاهتمام الرسمي، أقلّه في الطرقات التي سلكناها والتي لا يقل عرضها في بعض الأماكن عن 15 متراً...‏

فجأة تبدّل المشهد عندما دلفنا إلى البلدة، فضاق الطريق ليصل في أحسن الأحوال إلى خمسة أمتار مع ملاحظة "الترقيع الرديء" الذي خضعت له الطريق قبل شهرين، فينتاب السالك شيء من الاستياء والرغبة في الاستفسار، ويكاد هذا المشهد يختصر واقع حال البلدة الغارقة في الإهمال.‏

ساعة ونيف هي المدة التي استغرقها وصولنا إلى القرية (تعلو عن سطح البحر نحو 1300 متر) التي قصدناها لتغطية افتتاح معرض "المونة" الثاني الذي تنظمه الجمعية الخيرية الإسلامية لأبناء جبيل وكسروان. تستقبلك لوحة ركنت على يمين الطريق "أهلا وسهلاً في بلدة لاسا".‏

المشهد من خلف زجاج السيارة فيه الكثير من إبداعات الخالق الذي حوّل هذه القرية الوادعة إلى لوحة جمالية تتداخل فيها كل ألوان الحياة، لكن كلما توغلت في شوارع البلدة تلمس معاناة لا متناهية ترجمت مرثيات من الشكوى من قبل الأهالي ومضمونها الدائم "الإهمال الرسمي" والإنماء غير المتوازن الذي يأخذ هنا معنى آخر كون الفرق ظاهراً، ويمكن ملاحظته ضمن عشرات الأمتار!‏

عند "كعب" كل شجرة تفاح أو تين أو دالية عنب أو شتلة فريز حكاية خاصة تروي معاناة أهلها مع الإهمال الرسمي الذي غلّف هذه القرية بكثير من الوعود التي صمّت الآذان عندما كان المواطنون ناخبين في الاستحقاقات النيابية، ولكن فيما بعد لم تترجم أي من هذه الوعود، ولم يتحقق منها إلا جزء يسير لولا جهود محلية متواضعة.‏

تمتاز لاسا بالتفاحيات، وهذه الميزة كانت تشكل حتى الأمس القريب مفخرة لأهل القرية، ويروى الأهالي أنهم عندما يقطفون إنتاجاهم من التفاح كانوا يدوّنون على الصناديق من الخارج عبارة "لاسا ضيعة منفردة فيها تفاح مُورده إن كان بدك للصحيح ستاركن وارد من عين وردة" (مكان يشتهر بالتفاح)... هذه المقولة لم تعد ترد على صناديق التفاح اليوم بعدما حال ارتفاع الكلفة دون تسويقها، فآثر الأهالي تصريفها بثمن بخس أو تركها قوتاً للطيور.‏

عادة ما تعج البلدة بأهلها صيفاً، وقلّما تجد بيتاً خالياً من أصحابه، وفي فصل الشتاء تغدو خاوية إلا من المزارعين الذين "لا حول لهم ولا قوة" حيث يعانون الأمرّين نتيجة البرد القارس وانقطاع الطرقات وانعدام وسائل النقل نتيجة تراكم الثلوج على الطرقات، والتي يتراوح ارتفاعها في بعض الأوقات بين المتر والمترين، ما يعني عزل البلدة عدة أيام قبل أن تأتي فرق الإنقاذ! وذاكرة الأهالي لم تفارقها معاناة شتاء العام 86 عندما حاصرت الثلوج البلدة لفترة طويلة، وكانت الوسيلة الوحيدة للتزود بالوقود والمواد الغذائية عبر طوافة تابعة للجيش اللبناني.‏

واليوم وعلى أبواب الشتاء تعود هذه الهواجس، وخصوصاً أن الاهمال لم يتغير والحوادث تتكرر، والوصول إلى أقرب مستشفى يقتضي قطع مسافة 40 كلم، بينما أقرب بلدة تبعد عنها 8 كلم، وفي احدى المرات كما يروي الأهالي تعرض أحد أبناء البلدة لصعقة كهربائية ما اضطر الأهالي لكي يحملوه على لوح خشبي مشياً على الأقدام إلى أقرب بلدة!‏

هذه المعاناة ليست إلا جزءاً يسيراً، وهي لا تنحصر في الطرقات فحسب، بل تتعداها إلى المستوصفات والمدارس ومياه الشفة، إضافة إلى عدم تصريف المنتجات الزراعية بالرغم من الجهود الكبيرة التي تبذل في هذا الخصوص.‏

الواقع التعليمي في البلدة مأساة بكل ما للكلمة من معنى ... كيف يعقل أن بلدة يبلغ عدد سكانها سبعة آلاف نسمة (2600 ناخب) لا تجد فيها مدرسة رسمية لائقة! ما يطلق عليه مدرسة لا يتعدى الغرفتين في مبنى البلدية، وكل غرفة فيها ثلاثة أو أربعة مقاعد، أكل الدهر وشرب عليها!‏

هذه "النعمة" أي "المدرسة الجديدة" بمقاعدها الأربعة المتهالكة حلّت مكان "المدرسة القديمة" المؤلفة من غرفة واحدة تحولت الآن إلى زريبة للماعز ومستودعاً لعلفها!!!‏

ما يزيد الطين بلة حسب ما تقول معلمة المدرسة زينب سيف الدين "أن عدد طلاب المدرسة لا يتعدى الخمسة عشر تلميذاً. أما طلاب القرية ويبلغ عددهم مئتي طالب تقريباً فموزعون على القرى المجاورة مع ما يرتب ذلك من أعباء مادية على الأهل، فضلاً عن المشقة الكبيرة خصوصاً في فصل الشتاء حيث تقطع الطرقات نتيجة تراكم الثلوج.‏

أما البنى الصحية فليست أفضل حالاً من البنى التعليمية، إذ لا مستوصف طبياً، أقله لمعالجة الحالات الطارئة، الأمر الذي يدفع بأبناء البلدة كي يقطعوا مسافات طويلة للعلاج، أو يجدون أنفسهم مضطرين للنزول إلى العاصمة.‏

وبالنسبة لموضوع مياه الشفة، لا يتردد الأهالي بالقول إن لاسا عطشى في بعض الأحيان على الرغم من أنها على خزان مياه كما يقولون، وهي عملياً تتغذى بمياه نبع أفقا المجاور، وسبب العطش ليس شح المياه إنما انقطاع التيار الكهربائي عن مضخات المياه، وهو ما يجبر الأهالي على جر المياه عبر تحويل مياه العيون التي يصل عددها إلى خمسٍ تقريباً إلى المنازل، كل حسب حاجته وبالتناوب.‏

إذاً البلدة يعتمد أهلها على الزراعة وتربية المواشي بالدرجة الأولى، وهي تشهد حركة إعمار بطيئة حديثاً بعدما كان يمنع على الأهالي الاستحصال على رخص بناء ما لم يملك صاحب المشروع عشرة آلاف متر مربّع!‏

"مهما حاولت أن تسلط الضوء على بلدة لاسا من حيث الإهمال الرسمي لها فإنك ستبقى عاجزاً عن الاحاطة به"، وفق ما يقول رئيس البلدية رياض المقداد الذي يحمّل مسؤولية تنمية القرى إلى الدولة وتحديداً إلى وزير الأشغال العامة، حيث يعمل كل وزير ضمن نطاق محافظته، أو ضمن إطار الجهة السياسية التي أتت به وزيراً!.‏

ويعدد المقداد الإنجازات التي تقوم بها البلدية بالرغم من إمكاناتها المتواضعة من شق طرقات وترميمها وتوسيعها، إلى استحداث مستوصف جديد، مذكراً بالوعد الذي أطلقه وزير التربية السابق عبد الرحيم مراد عندما زار البلدة ووعد باستحداث مدرسة جديدة، والى الآن لا مؤشرات عملانية تدل على قرب بناء المدرسة بالرغم من تأمين الأرض التي ستقام عليها المدرسة.‏

في وسط الطبيعة الجميلة والهواء المنعش المقترن بالإهمال الرسمي المتمادي يبقى شيء ذو مغزى يلفت إليه أبناء البلدة هو مقام النبي هدوان القابع في جرود لاسا، وهو مقام يدأب المسلمون والمسيحيون على التبرك منه، إضافة إلى وجود آثار لقبر النبي شمعون في البلدة، وهناك أيضاً الشروع في ترميم المساجد القديمة التي تعود إلى أيام (بيت حمادة) عندما حكموا المنطقة آنذاك، وهي تجاور أبرشية جونية المارونية وكنيسة البلدة لتعطي معنى آخر للتعايش والتنوع في لبنان الذي بدونه يفقد معناه ورسالته الحقيقية.‏

المعرض الزراعي‏

ولأن البلدة لا تملك إلا الزراعة وجودة إنتاجها منه، ومحاولة منها لتجاوز الإهمال وعدم الاستسلام له، حاول أبناء البلدة عبر المؤسسة الإسلامية الخيرية لأبناء جبيل وكسروان الاستفادة مما منحه الله لهذه البلدة من بركات الزراعة وخيراتها وجمال طبيعتها، حيث دأبت هذه المؤسسة للعام الثاني على التوالي على تنظيم "المعرض السنوي الثاني للمونة والإنتاج الزراعي"، وافتتحه هذا العام وزير العمل طراد حمادة بحضور حشد من أبناء البلدة والجوار.‏

المعرض تميّز بحسن التنظيم وبالإنتاج الزراعي الوفير، وهو يستمر حتى الثاني من شهر تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، وفيه منتجات بلدية يتصدر قائمتها "العسل، الكشك، الزعتر، المربيات، خل التفاح، رب البندورة، قورما، جبنة بلدية، فواكه، وخضار"، فضلاً عن أعمال حرفية متميزة.‏

وقد افتتح المعرض بكلمة للوزير حمادة أثنى فيها على جهود الكبيرة لأبناء هذه البلدة.‏

بدوره أمين سر المؤسسة المهندس حسن المقداد أكد على أهمية المعرض كونه يندرج في إطار تعزيز المزارع ضمن مشروع التنمية المستدامة، وتقريب المستهلك من المنتج والمزارع دون الوسطاء، كما يهدف إلى تشجيع الطاقة الفردية عند المزارع، وإيجاد بعض الأعمال لربات المنازل، وحثهم على الإنتاج الزراعي، وربط أبناء البلدة بقراهم، والعودة إلى الاصالة من خلال التشجيع على أعمال التراثيات التي تكاد تندثر مع الوقت.‏

تحقيق: حسين عواد‏

2006-10-30