ارشيف من : 2005-2008

لبنان ومسلسل الأزمات الحكومية: صراع على الأحجام ودور لبنان الإقليمي

لبنان ومسلسل الأزمات الحكومية: صراع على الأحجام ودور لبنان  الإقليمي

الانتقاد/ لبنانيات ـ العدد 1118 ـ 15 تموز/ يوليو 2005‏‏

الأزمة السياسية التي يتخبط بها لبنان أثناء تشكيل أي حكومة جديدة هي بمثابة عرف كرّسته الحياة السياسية اللبنانية على خلفية العلة في النظام اللبناني، ولذلك فإن الأزمة الحالية ليست جديدة، فهي استمرار لأزمة ترجع الى عقود وسنوات الاستقلال في الأربعينيات، حيث شهد لبنان كثيراً من الأزمات حيال تشكيل حكومات، ودخل في مرحلة الفراغ الدستوري أكثر من مرة. ففي العام 1947 كانت بداية المرحلة حين اضطر سامي الصلح أكثر من مرة الى إرجاء الاعلان عن ولادة حكومته التي انبثقت عن انتخابات نيابية هي الأشهر في لبنان، اذ اتسمت بالتزوير. وتكرر هذا المشهد حين استقال بشارة الخوري في العام 1952 على خلفية التوتر الداخلي الذي أطاح به، ليخلفه كميل شمعون.‏‏

وإذا تجاوزنا أزمة 1958 الشهيرة التي شهدت صراعاً حاداً سياسياً وانفجر عسكرياً على وقع سياسة كميل شمعون المنحازة الى الحلف الثلاثي آنذاك والمعادية للعروبة، والتي أدت الى الاستنجاد بـ"المارينز" الذين نزلوا على شواطىء بيروت, فإن حكومة عبد الله اليافي في العام 1962 في عهد فؤاد شهاب، شهدت تفسخاً وتصدعاً تمثل باضطراب بين أعضائها أعلن عنه هنري فرعون عبر تقديم استقالته من الحكومة، احتجاجاً على ما سماه حينها تدخل الشعبة الثانية ـ مخابرات الجيش ـ في شؤؤن الحكومة. لكن كانت الأزمة البارزة والأكثر ظهوراً في العام 1969، حين عوّمت حكومة الرئيس رشيد كرامي مدة سبعة أشهر ، وأنيط بها تصريف الأعمال في وقت كان لبنان في امسّ الحاجة الى حكومة تمارس دورها كاملاً.. ولكن نتيجة التضارب في التوجهات السياسية والتضارب في دور الحكومة حيال التطورات التي كانت سائدة حينذاك وتهدد أمن واستقرار البلاد، ولا سيما الصراع المسلح مع الفلسطينيين في أكثر من منطقة، دفع لبنان الى أتون فراغ دستوري لم يخرج منه إلا منهكاً. وبعد أربع سنوات تقريباً على هذه الأزمة عرف لبنان نمطاً جديداً من الاضطراب الوزاري، تمثل بإجبار الوزير هنري إده على تقديم استقالته من الحكومة، وكان يتسلم وزارة الصحة، لأنه حاول أن يقف بوجه مافيات الدواء. وهذا الموقف لم يعجب مسؤؤلين في الدولة فأجبروه على ترك الحكومة. وطبعاً بعد سنتين سقطت حكومة رشيد الصلح تحت ضغط أحداث العام 1975، وبدأ معها التجاذب بشكل قوي حول تشكيل الحكومات المتعاقبة الى العام 1985 بعد مؤتمر لوزان، حيث شهد تشكيل حكومة رشيد كرامي آنذاك صراعاً حاداً بين القوى الفاعلة على الأرض عكس بشكل أساسي موازين القوى التي كانت قائمة. وبعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل في العام 1989 شهد لبنان لأول مرة في تاريخه حكومتين: الأولى برئاسة الرئيس سليم الحص والثانية برئاسة ميشال عون الذي كلفه أمين الجميل بتشكيل حكومة انتقالية تمهد لانتخاب رئيس للجمهورية. واستمر الانقسام الحكومي الى الثالث عشر من تشرين الأول عام 1990، أي حين إنهاء ظاهرة العماد عون آنذاك ومن بعدها تشكيل حكومة الطائف الأولى برئاسة عمر كرامي، التي كان مقرراً لها ان تكون حكومة أشبه بحكومة وحدة وطنية. إلا أن استنكاف القوات اللبنانية بشخص سمير جعجع عن المشاركة بها ومقاطعتها من قبل شخصيات مسيحية، أبعدت عنها هذه التسمية. وبعد العام 1992 بدأ الحريري تشكيل حكوماته التي بلغ عددها حتى 2004 ست حكومات، وشهدت جميعها تجاذباً حاداً وصل أحيانا الى حد الاعتكاف من قبل رئيسها، والى اشتباك سياسي متواصل على خلفية الصلاحيات. هذا عدا عن المخاض العسير الذي شهدته هذه الحكومات أثناء تشكيلها. ولكن بعد اغتيال الحريري في الرابع عشر من شباط، بدأت الأوضاع تتخذ منحى سياسياً جديداً ضاعف الصعوبات أمام حكومة عمر كرامي، التي واجهتها بعد التمديد للرئيس إميل لحود وتكليف كرامي بتشكيل الحكومة خلفاً للحريري.. وبدأت حكومة كرامي مسيرتها وسط ألغام عديدة وصلت به الى تقديم استقالة حكومته في الثامن والعشرين من شباط تحت ضغط الشارع اللبناني المعارض وضغط أميركي فرنسي، خصوصاً بعد الإعلان السوري عن بدء الانسحاب من لبنان. ولكن نتيجة الاضطراب السياسي في البلاد كُلف كرامي مجدداً تشكيل الحكومة، ولذلك وجد نفسه في مواجهة صعبة وعليه اتخاذ قرارات غير عادية أثناء مشاوراته لتشكيل حكومة تخلف حكومته الأولى. وكأن هذا الزعيم الشمالي تلقف كرة النار بيديه, وهو الذي أسقطه الشارع مرتين: الأولى في العام 1992 تحت عنوان "انتفاضة الإطارات" احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية المتردية آنذاك وجنون الدولار الأميركي الذي أوصل سعر صرف الليرة اللبنانية الى أدنى مستوى في تاريخ لبنان. والثانية منذ أقل من خمسة أشهر. ولكن كرامي وصل الى طريق مسدود فاعتذر، فخلفه نجيب ميقاتي في رئاسة الحكومة. ويقال إن هناك توافقاً سعودياً فرنسياً حدث حول ضرورة تشكيل حكومة لبنانية بأسرع وقت، وأتى ميقاتي الى رئاسة الحكومة في أدق الظروف، او بتعبير أدق تلقف كرة النار من الرئيس عمر كرامي الذي لم يستطع الاستمرار بحملها. فميقاتي كان عليه إنجاز قانون انتخابي يرضي المعارضة التي سمته وتعهد أمامها بالسير بالقانون الحالي في مجلس النواب الذي يقول بالقضاء دائرة انتخابية واحدة. ونجح ميقاتي في اجراء انتخابات نيابية، لكن على أساس قانون الألفين، بعدما فشل في إقرار قانون انتخابي جديد. وعلى ضوء نتائج الانتخابات النيابية كلف فؤاد السنيورة تشكيل الحكومة على وقع عقد كثيرة اعترضتها. ومن الواضح أن الأزمات الحكومية في لبنان هي تعبير عن أزمة في النظام الكامل، لأنه لا مجال لممارسة الأصول التي قام عليها هذا النظام كنظام برلماني ديقراطي، وغالباً ما تتعطل المؤسسات في لبنان لتحل مكانها الصيغ التي كانت تعرف بالترويكا. ولذا فإن الأزمة ال

حكومية في لبنان هي سمة هذا البلد التي غالباً ما تستقر على صيغة مؤقتة لتصريف الأمور وإدارة الاحوال، لكنها بالتأكيد لن تكون صيغة حل نهائي، لأن الصراع أحياناً يكون على شىء وفي الوقت عينه تكون العين على أشياء أخرى. فأحياناً على تشكيلة مجلس النواب او السيطرة على الحقائب الأساسية، وأحياناً أخرى على رئاسة الجمهورية.. لكن يجب ان لا ننسى ان العين تكون غالباً على دور لبنان في مقاومة "اسرائيل"، وما يتصل بذلك من رغبات دولية في إعادة رسم خريطة سياسية جديدة في لبنان.‏‏

حسين عبد الله‏‏

2006-10-30