ارشيف من : 2005-2008

انتصار حماس: مأزق إسرائيلي وإجراءات مشكوك بفاعليتها

انتصار حماس: مأزق إسرائيلي وإجراءات مشكوك بفاعليتها

ما زال "الزلزال الحماسي" يثير الهزات الإرتدادية داخل الساحة السياسية الإسرائيلية، والتي لم تستفق بعد من "كابوس" الخطر الداهم الذي باتت القيادات الإسرائيلية تستشعر به واقفاً على الأبواب.. هذا اقل ما يمكن قوله في توصيف الحراك الإسرائيلي بكليّته المعبِّر عن القلق ـ والخشية ـ الذي رافق انتصار حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وما زال.‏

لكن أهم ما يمكن أن يُفهم من الصخب الإسرائيلي الهائل المعبر عن المأزق، والذي رافق انتصار حركة حماس، هو أن أصل هذا الانتصار ودخول حماس بقوة إلى المنظومة السياسية والأمنية الفلسطينية، سحب ما يمكن تسميته بالغطاء ديمقراطياً عما يسمى بشرعية وجود الكيان الإسرائيلي، وذلك بالقدر الذي تتغلغل فيه حماس إلى منظومة السلطة الفلسطينية، فما دامت حماس على مبادئها والتزاماتها تجاه الشعب الفلسطيني ولا تُقدم على القيام بتنازلات فيها، فذلك يعني إسرائيليا العودة إلى ما قبل المربع الأول للتسوية، وبالتالي ضياع كل ما كانت "إسرائيل" تحاول تحقيقه مع الفلسطينيين، حيث أن المطالب والنقاشات الحالية، دوليا وإقليميا وحتى فلسطينيا، تتمحور حول اصل الاعتراف بوجود الكيان الإسرائيلي من قبل الجهة التي ستمسك بالقرار الفلسطيني، بعد أن كانت الفئة الفلسطينية التي تسلمت زمام الأمور، اقله منذ التوقيع على اتفاقية أوسلو، واظبت على تخفيض السقوف الفلسطينية قبالة الإسرائيليين بحيث كادت تتلاشى..‏

على هذه الخلفية يفترض فهم الإصرار الإسرائيلي المبدي من تصريحات ومواقف أصحاب القرار السياسي والأمني في الكيان، وهو إصرار يرتكز على ضرورة أن تقدم حماس على التسليم والاعتراف بالكيان والتخلي عن خيار المقاومة كوسيلة لتحصيل الحقوق الفلسطينية، إضافة إلى الالتزام بكل الاتفاقات المبرمة مع السلطة الفلسطينية، التي اثبت الشعب الفلسطيني عدم ثقته بقدرتها على إحقاق أدنى الحقوق الفلسطينية.. لكن إذا كان لـ"إسرائيل" الرغبة، فهل لديها القدرة والأدوات على تحقيق ذلك؟‏

الواقع الحالي المتبلور، يفرض على الكيان الإسرائيلي أن يتحرك لاستيعاب الموقف وإعادة حرف المسائل باتجاهات تصب في مصلحة "إسرائيل"، وبالتالي يحاول كل طرف إسرائيلي، في ظل ضغوط انتخابية واضحة المعالم على اصل هذه المواقف، أن يدلو بدلوه فيما خص الاستراتيجية الواجب اتباعها تجاه حماس، ويجري التنافس كلاميا بين هذه الأطراف حول من يمكنه أن يطرح مطالب وشروطاً، بل وأفعالاً أكثر تطرفا، علما أن الحكومة الإسرائيلية نفسها برئاسة إيهود اولمرت، هي أيضا معنية بالانتخابات الإسرائيلية القادمة (28 آذار) وتوليها اهتماما خاصا كمحرك وضابطة للمواقف والإجراءات التي تتخذها فيما خص الساحة الفلسطينية تحديدا..‏

وإذا كان القرار الإسرائيلي الرسمي الذي اتخذته حكومة إيهود اولمرت بعد مشاورات ومداولات، مع الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، قد أفضى إلى وقف تحويل رسوم الضرائب والجمارك التي تجبيها "إسرائيل" لمصلحة السلطة الفلسطينية، وتجميد بناء ميناء غزة والمطار، واعتبار اولمرت أن السلطة الفلسطينية أصبحت كيانا إرهابيا، إلا أن اولمرت قرر أن لا يقرر فيما خص باقي توصيات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، من بينها حركة العمالة الفلسطينية إلى الكيان، واعتماده التدرج في تقليص الاتصالات مع السلطة الفلسطينية، من دون اتخاذ قرار بتحويل معبري ايرز وكيرني الرابطين لغزة مع الكيان إلى معبرين دوليين.. الأمر الذي يطرح تساؤلات حول اصل هذه الإجراءات وجدواها، وهي إجراءات تمخض عنها القرار الإسرائيلي بعد سلسلة واسعة جدا من المشاورات والمداولات، وبالتالي لم تأت على شاكلة ردود الفعل الابتدائية على انتصار حماس في الانتخابات، بل جاءت مدروسة جدا وتعبر عن حقيقة ما تملكه "إسرائيل" من قدرة وأدوات في هذه المرحلة.‏

فالمعركة الأساسية التي توجّب على "إسرائيل" خوضها ركضا وراء الواقع الحالي الذي يتشكل في الساحة الفلسطينية، بهدف تغييره أو حرفه عن المآل المتبدّي، قد يتلخص في ما قاله عاموس غلعاد، رئيس الطاقم السياسي الأمني في وزارة الحرب الإسرائيلية تعليقا على انتصار حماس، حيث قال: "على الشعب الفلسطيني أن يصل إلى قناعة في أن حماس لن تجلب له إلا المشاكل".. لكن الحد الذي يمكن أن تصل إليه "إسرائيل" حدده أيضا مستشار رئيس الحكومة الإسرائيلية دوف فايسغلاس في المداولات التي سبقت إقرار العقوبات الإسرائيلية على الفلسطينيين، حيث قال ان "المخطط له هو حمل الفلسطينيين على الهزال من دون أن يموتون جوعا".‏

ما يعني أن الحراك الإسرائيلي لجهة التهويل الكلامي المباشر أو لجهة الإجراءات والتدابير المتخذة إسرائيليا، سيركز على كل ما يمكنه بحسب الوعي الإسرائيلي للساحة الفلسطينية، دفع الجمهور الفلسطيني للانقلاب على خياراته التي عبَّر عنها في الانتخابات الأخيرة، وبالتالي العودة عنها لاستئنافها من جديد، لعلَّها تعيد الواقع الفلسطيني إلى ما كان عليه قبل الانتخابات.. إلا أن الضابطة التي ستقيد الفعل الإسرائيلي المبادر إليه، هو أن لا تصل الساحة الفلسطينية إلى الحد الذي تتشظى فيه لتصيب الكيان الإسرائيلي نفسه، وبعبارة أخرى الانهيار الكامل للسلطة الفلسطينية.. وهو ما يطرح تساؤلا في إطار الحدين المشار إليهما: هل يمكن للإجراءات الإسرائيلية المتخذة أو التي يمكن أن تتخذ لاحقا، ضمن الضابطة المشار إليها، أن تحرف الساحة الفلسطينية عن خياراتها .. إن دراسة القرارات الإسرائيلية تشير إلى التالي:‏

من المفيد الإشارة إلى أن نصف الأموال التي تحولها عادة "إسرائيل" إلى السلطة الفلسطينية، يجري دفعها عمليا إلى شركات إسرائيلية تقدم خدمات للسلطة، ما يعني أن نصف العقوبات المالية تسري عمليا على الإسرائيليين أنفسهم، وبالتالي من الصعب التصور أن تقدم الحكومة الإسرائيلية على قطعها، خاصة أن إيهود أولمرت قد عبر في سياق تقريره أمام لجنة الخارجية والأمن التابع للكنيست يوم الأربعاء الماضي، أن "إسرائيل" لن تقطع عن الفلسطينيين إمدادات الكهرباء والمياه وستواصل السماح بدخول عمال فلسطينيين إليها...‏

يضاف إلى ذلك، أن لا قدرة إسرائيلية بنتيجة الانعكاسات المحتملة على الكيان نفسه، على قطع ما يسمى بالأموال المخصصة للمساعدات الإنسانية، وهذا ما عبر عنه أولمرت أيضا مؤخرا واقر به بشكل غير مباشر، إذ كيف لإسرائيل أن تفصل ما بين الخدمات الإنسانية التي لا يريدون قطع المال عنها كما هو حال الخدمات التربوية الصحية، وبين تمويل الأجهزة الأمنية والإدارية في السلطة الفلسطينية، علما ان الموازنة الفلسطينية وحدة متكاملة تتجزأ نظريا لكنها في الأصل تبقى واحدة، حيث يؤثر أي جزء منها على الأجزاء الأخرى سلبا أو إيجابا، بمعنى أن نزع أي عبء مالي عن حكومة حركة حماس القادمة في أي قطاع خدماتي، يخفف من العبء المالي الكلي ويحصر اهتمام حماس به دون غيره.. الأمر الذي يفقد هذه العقوبات جدواها، وهذا ما حذر منه اكثر من محلل وخبير إسرائيلي مؤخرا.‏

كما أن "القرارات العقابية" المشار إليها، وردها إلى الاستراتيجية التي عبر عنها عاموس غلعاد، يذكر بالفلسفة التي انطلق منها المفهوم الإسرائيلي الذي بنيت عليه سياسة القمع في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية منذ العام 2000، وتحديدا في اعتماد أسلوب التنكيل والتصفيات وتدمير المؤسسات ردا على كل عملية مؤلمة تنفذها فصائل المقاومة، على قاعدة إفهام الشعب الفلسطيني أن خيار المقاومة هو خيار مكلف وليس مجديا.‏

لكن تواصل فشل الاعتداءات الإسرائيلية في تحقيق هذا الهدف في مواجهة المقاومة الفلسطينية طوال السنوات الخمس الأخيرة، يشير إلى أن الإجراءات "العقابية" الأخيرة لن تحقق هدفها أيضا، حيث أن كلفتها لا توازي شيئا مع الكلفة المدفوعة إلى الآن من قبل الشعب الفلسطيني، ما يعني أن هذه السياسة المنطلقة من نفس الرؤية القديمة، والتي يبدو أن ليس لإسرائيل بديل عنها، مآلها الفشل التام.. خاصة أن الشعب الفلسطيني لم يرد على الممارسات الإسرائيلية بالتأكيد على خيار حركة حماس وحسب، بل اختارها أيضا لإدارة شؤون حياته.‏

المشكلة الإسرائيلية مع حماس هي في أن الشروط الإسرائيلية هي طلب تغيير المحتوى الداخلي الذي تختزنه العقول والقلوب، بمعنى تغير الموقف النظري الذي لا يترجم في هذه المرحلة اداءً أو ممارسة، وإنما آمالا على مستوى المستقبل، وهو موقف مطلوب من حماس تغييره، ليس فقط فيما يتعلق بسلوكها الجهادي والخطوات السياسية التي تقوم بها، وبالتالي فإن المشكلة تنبع من الهوة القائمة بين الحد الأدنى من الشروط التي تعتبر إسرائيليا توفر لها ما يؤمّن لها الاستقرار والبقاء، وبين ما تختزنه ضمائر هذه الأمة من ثوابت ومبادئ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتخلى عنها، والتي بدورها (الهوة) تضيء لنا جليا على مدى هشاشة أي تسوية سياسية قد يتم فرضها في مرحلة من المراحل لظروف سياسية أو اجتماعية معينة. فأحد مداليل نتائج الانتخابات الفلسطينية هو انتفاضة فلسطينية على مسيرة أوسلو، من دون إنكار حقيقة وأبعاد وعوامل أخرى أدت إلى هذه النتائج.‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1150 ـ 24 شباط/فبراير 2006‏

2006-10-30