ارشيف من : 2005-2008

والحرب تعود كل حين..:مخيم بلاطة.. الموت والحلم.. ندّان متساويان

والحرب تعود كل حين..:مخيم بلاطة.. الموت والحلم.. ندّان متساويان

رام الله ـ ميرفت صادق‏‏

في منتصف المكان وجدناه جالسا يحتضن طفلا، توجهنا إليه "نريد أن نتعرف الى وطن الحلم والموت هذا"، قلنا له.. أجاب: "لكم ما طلبتم".. تنظر حينها يمينا وشمالا وتتساءل: هل تجري حديثا مطولا في زقاق، في منتصف الشارع، أم ماذا؟‏‏

عندما ألحّ علينا بالبدء: "توكلوا على الله، المكان هنا ليس مشكلة".. استدرك أن المخيم بإنسانه ومائه وترابه يعيش منذ 54 عاما.. في الشارع والزقاق.. ومن أنت لتأتي وتغير هذا الواقع؟‏‏

واقع المخيم الفلسطيني، مأوى اللاجئ الموقت منذ أكثر من نصف قرن، كما سندرك، بيئة ترسخت في أبنائها وأنبتت في شخصياتهم أنماطا من الثورة والعبء وروح الرفض لواقع موحل، تلوثت أحلامهم فيه بمجاري المخيم التي لا تنقطع، وبظلم تاريخي أصبح الوطن بعده مجرد أرض يرونها من بعيد ويحظر عليهم الحلم بها إلا سرا، أو جهرا من فوهات السلاح.‏‏

بلاطة الذاكرة‏‏

نتنقل اليوم في أزقة مخيم بلاطة الفلسطيني، مكان عصي على التعريف بكلمات تكتب، ولكن من السهولة شرحه في مشاهد الاشتباكات وتحت دوي الاجتياحات، وفي صور الشهداء تتوالى الواحدة تلو الأخرى.‏‏

يقول صبري ذوقان من مخيم بلاطة، وهو لاجئ، يرتدي لباسا شتويا مهترئا لا يسمن ولا يغني من برد، ولا تفارقه صورة "السوالمة"، قريته التي نبتت يوما في أحلامه، ورضعها كما يقول "مع حليب أمه" وعداً وقَسَماً بأن يصلها.. ويختار الحديث عن كينونة هذا المكان الذي لا يزيد في مساحته عن كيلومتر واحد، ومنه تنبع آلاف القصص "لمعذبين على مشارف أرضهم صمتا وعويلا".‏‏

يقول ذوقان: "مخيمنا بدأ الحياة في العام 1952 على مساحة 250 دونما، وكان يسكنه في ذلك الوقت 7.000 لاجئ، هجّرهم الخوف والموت والرصاص".. وحتى هذا اليوم وصل تعداد السكان 22 ألف نسمة، من دون أن تتسع مساحة أرضه شبرا واحدا".‏‏

ولما كان مخيم بلاطة أحد أكثر الأهداف الإسرائيلية شراسة، حتى ان دبابات الاحتلال ما عادت مشهدا جديدا في عيون الفتية المرابطين على مداخله، اخترنا ان نسير اليوم في أزقة تاريخه، وأن نتغلغل في خلفيات هذا الاستهداف وأبعاده وتأثيراته.‏‏

عقد منثور.. شهداء واجتياحات‏‏

يقول ذوقان: "يعود أصل السكان هنا إلى أكثر من 25 قرية دمرتها عصابات الإرهاب الصهيوني عام 48"، وسردها مرتبة في ذاكرته كعقد بلور منثور: "قرية عرب السوالمة، عرب أبو كشك، الجماسين وسلمة وبيت دجن، والمر ويازور وكفر سابا، وكفر عانا والعباسية"..‏‏

وحتى الآن وبعد أيام من الاجتياح الأخير لمخيم بلاطة، لا تزال وتيرة الموت مرتفعة، حيث بلغ عدد شهداء المخيم منذ بداية انتفاضة الأقصى 145 شهيدا، في حين بلغ عدد من سقطوا دفاعا عن المخيم خلال الانتفاضة الأولى 95 شهيدا، وما قبل ذلك استُشهد عدد كبير من أبناء المخيم على أرضه وفي الشتات، وقد زاد عددهم على 30 شهيدا.. حيث تستقبلك مداخل بلاطة اليوم بلافتات دائمة تحمل صور القادة الشهداء من أبناء المخيم، ومن أبرزهم على مستوى عربي وإسلامي الشيخ القائد جمال منصور الذي سقط في عملية اغتيال بالأباتشي صيف عام 2001.. وكذلك مضى على دربه الشهيد محمود الطيطي وإياد أبو حمدان، وأخيراً وليس آخراً محمد اشتيوي.. وسيعيش من بعد هؤلاء أيضا أكثر من 2500 مصاب بينهم أكثر من 5% أصيبوا بإعاقات حركية دائمة.‏‏

وفي مشهد آخر يروي أسرى المخيم أيضا صورة أكثر كثافة للحزن، إذا ما تحدثنا عن 350 أسيرا وما لهم من عائلات تعاني من حسرة غيابهم، ويواجه عدد كبير منهم أحكاما بالسجن فترات طويلة جداً تتجاوز المؤبد الواحد، لإضافة لآخرين يسرقهم الوقت من دون حساب تحت الاعتقال الإداري.‏‏

ويُحصي صبري ذوقان كما باقي لاجئي المخيم، عدد الويلات التي صبتها مدرعات الاحتلال ومدفعيته على المخيم خلال الانتفاضة الحالية بـ(15) اجتياحا، شهدت في معظمها أياما متوالية من الحصار المشدد ومنع التجوال وفقدان أسباب العيش لآلاف الأطفال.. "جميعها كانت واحدة في حجم الحسرة" قال صبري.. "ولكن لا يمكن لأحد أن يشهد ألما كالذي عشناه في نيسان عام 2002"، حين سقط تسعة شهداء دفعة واحدة على أرض المخيم.‏‏

لماذا؟‏‏

ولماذا هذا الموت الملازم للحلم؟ سألناه فقال: "نحن أناس هُجرنا قسرا وطردا وتشريدا، وعشنا على ذكريات آبائنا وأجدادنا عندما تركوا بيوتهم وقراهم، لأيام قصار فقط" كما قال بعضهم لبعض حينها، وما زلنا حتى اليوم ننتظر انتهاء تلك الأيام القصار".. ويضيف: "أمر طبيعي أن يخرج من المخيم كل يوم مقاتلون وأن تكون لغة السلاح هي الأكثر استهواءً عند الشبان، فهذا طفلي ابن العامين يستطيع تمييز صوت الرصاص من صوت القصف العشوائي، ولديه حاسة أسرع من صوت الرصاص، فتسبق يداه الحدث لتغطي أذناه.. هذه في النهاية ثقافة نتربى عليها جميعا".‏‏

الأونروا.. وأشياء أخرى‏‏

وقد كانت مؤسسة "أونروا" المنبثقة عن هيئة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين أهم المؤسسات العاملة في المخيمات الفلسطينية كما هي الحال في مخيم بلاطة.. بدأت خدماتها منذ اليوم الأول لوصول المشردين الى بقعة "بلاطة" شرقي مدينة نابلس الفلسطينية عام 1952، حيث شيدت الوحدات السكنية لإيواء العائلات الهاربة من المجازر، الى جانب توزيع المواد الغذائية شهريا على كل عائلة.. وكانت أيضا المسؤولة عن كسوة الآلاف، وقدمت أيضا الوجبات الغذائية لطلبة المدارس الفقراء من الصف الأول حتى التاسع الأساسي، وجميع المخيم كان فقيرا معدما.. ووفرت "الأونروا" أيضا تعليما مجانيا لهؤلاء الفقراء، ومركزاً صحياً للعلاج المجاني كان يشمل العمليات الجراحية ورعاية الطفولة والأمومة.‏‏

"هذه صورة الماضي" يقول ذوقان، أما اليوم فقد تقلصت بشكل كبير خدمات هذه المؤسسة منذ العام 1982 بالذات، وأصبح اليوم الطالب اللاجئ ملزما بدفع جزء من تكلفة تعليمه، برغم أن معيار الفقر لم يتضاءل، بل تفاقم وتشعب في النفوس والشوارع والأبنية.."، وخضعت خدمات "الأونروا" للسياسة المهيمنة على الأمم المتحدة بأيدٍ أميركية ـ صهيونية"، وهي القناعة التي يدركها جميع لاجئي المخيم، كما يعبر عنها ذوقان.‏‏

الى جانب "الأونروا" تحاول بعض المؤسسات سد النقص المادي، ولا يوجد من يسد النقص والعجز المعنوي الذي يعانيه أهالي المخيم اليوم. مركز شباب بلاطة الذي يقدم خدمات ثقافية ورياضية وعلمية خاصة بالشباب، تضاءل دوره أيضاً في السنوات الأخيرة بسبب نقص الدعم الذي كان يتلقاه أيضا من "الأونروا". وهناك مؤسسة اللجنة المحلية لتأهيل المعاقين التي تقدم خدمات محدودة للمعاقين ولذوي الاحتياجات الخاصة من أبناء المخيم، وهم بالمئات، وفي معظمهم تحمل عاهاتهم بصمات رصاص الاحتلال وشظاياه. وتشكلت الى جانب هذه أيضا اللجنة الشعبية لخدمات مخيم بلاطة، تشكلت عام 96، وهي المؤسسة الممثلة لدائرة شؤون اللاجئين في منظمة التحرير الفلسطينية، ودورها الحفاظ على الكيان السياسي للمخيم والحفاظ على ما تبقى من الخدمات التي تقدمها "الأونروا". ويتشكل أعضاؤها من الفصائل الأساسية الثلاثة في المخيم وهي: حماس وفتح والجبهة الشعبية.‏‏

استعادة الحرب..‏‏

في الأيام الأخيرة الماضية استعاد مخيم بلاطة بأزقته ووجوه أبنائه مشهد الحرب المتكررة عليه، وبين ليلة وضحاها استفاق اللاجئون على دبابات تحاصر المخيم، وقصف عشوائي من كل حدب وصوب.. سقط ستة شهداء وأصيب 45 مواطنا، ودُمرت منازل تسببت في تشريد خمس عائلات، حيث خربت 35 بيتا تعرضت للتدمير الكلي أو الجزئي. وأيضا اجتهد جنود الاحتلال بوجوه ملوثة، في تخريب الخدمات المعتلة أصلا في شوارع المخيم، ومنها شبكة الصرف الصحي والمياه والكهرباء.. وتعرض للاعتقال نحو 10 شبان.. وعاش الأطفال محجوزين بين الخوف وجدار تترصده قذيفة الدبابة ستة أيام متواصلة تحت اجتياح ومنع تجوال مشدد.‏‏

المخيم.. وحق العودة‏‏

يقول عماد صلاح الدين الباحث الفلسطيني في شؤون اللاجئين: ان الهجمة على مخيم بلاطة وعلى باقي المخيمات الفلسطينية، ليست كما يدعي الاحتلال إحباطا لعمليات متوقعة من قبل المقاومين، أو بهدف اغتيال شخص هنا واعتقال آخر هناك، بل هي خطة مبرمجة تعدها العقلية الصهيونية منذ سنوات، وتهدف الى تدمير ما يسمى بالثقافة الفلسطينية "المخيم"، ودمج لاجئيه بكل فقرهم وألمهم في المدن والقرى الفلسطينية الأخرى، حتى تسقط أسطورة "حق العودة" كما يعتبرها الاحتلال.‏‏

وهذا ما لم تفلح فيه "إسرائيل" طول عمر فاق نصف قرن، وما زال المخيم برغم الموت، صامدا ملازما للحلم والمقاومة.‏‏

الانتقاد/ تحقيقات ـ العدد1151 ـ 03/03/2006‏‏

2006-10-30