ارشيف من : 2005-2008

عائشة الصغيرة تنام أخيراً في أحضان والدتها.. ولكن في الزنزانة

عائشة الصغيرة تنام أخيراً في أحضان والدتها.. ولكن في الزنزانة

رام الله ـ ميرفت صادق‏

يوم الأربعاء "الثامن من آذار ربيعي يوشك على الإزهار".. والشمس تتخفى وراء ستار من الغيوم، جهز الأب وليد الهودلي طفلته "عائشة" في مشهد وداعي، وضع لها في حقيبة كبيرة ملابس وحلوى وألعابا وبعضا من روحه.. وحمّل قلبها الصغير سلام الغائبين وراء المكان والزمان.. وانطلقت عائشة الصغيرة في رحلة تحت الأرض في سجن الرملة..‏

فكيف أدخلت يا وليد طفلتك ورفيقة وحدتك إلى سجن تحت الأرض لا يتقن سكناه سوى الألم والمرض والحنين.. وإن كانت عطاف "الأم" في انتظارها؟..‏

يقول الأب وليد الهودلي زوج الأسيرة عطاف عليان التي استمرت بنفس واحد في إضراب مفتوح عن الطعام امتد 16 يوما من أجل استعادة وجه طفلتها الوحيدة "عائشة": منذ 3 أشهر ما نسيت عائشة برغم صغرها وجه أمها.."، كان عمرها عند اعتقال والدتها ليلة الثاني والعشرين من كانون الثاني الماضي 14 شهرا.‏

يضيف: "ظلت تتعلق بالوجوه وتنطق بكلمة "ماما" لكل امرأة تمر أمامها، وتشير بأصابعها الصغيرة كل حين الى صورة أمها".‏

كان على وليد أن يعايش ألم غياب زوجته في الأسر، ووجع شوق ابنته الصغيرة لأمها.. يقول: "منذ الصباح كما في كل يوم منذ اعتقلت عطاف، كنت أجهز عائشة وأودعها في بيت أخي الى حين انتهاء وظيفتي بساعات من قلق، وأعود في نهاية دوامي مسرعا، وطيلة الأيام والليالي الماضية تشكلت لدينا حياة أخرى في البيت، صارت عائشة تحدثني وأحادثها.. وأشعر بها محور كوني".. كنا نمضي معاً في اختراع ألعاب تلهي عن تذكر عيون عطاف.. واكتشفت بعد حين ان الطفلة تفتش في الجوارير وبين الكتب عن صورة أمها، برغم ذلك كانت رفيقة وحدتي وأنيستي".. يضيف وليد.‏

فقد خياراته..‏

ومنذ أن بدأت زوجته الأسيرة عطاف عليان إضرابها المفتوح عن الطعام "لأجل عيون عائشة ووليد" كما أعلنت يومها، أدرك الزوج أنه فقد خياراته في الاستحواذ على طفلة أنجبها على حين أمل، بعد 12 عاما قضاها هو الآخر أسيراً من سجن لآخر..‏

يقول: "بعد 16 يوما من إضراب عطاف لأجل السماح لها باحتضان عائشة، صارت سهراتي مع الطفلة ترفا.. مقابل شوق أمها ومعاناتها في بعدها". وكان لزاما عليه أن يحملها الى حافلة الزيارة التي كانت تُقلها دوماً.. وتعود في المساء محملة بذكرى قسمات وجه أمها.. ولكن هذه المرة كان يدرك أنه يودع ابنته في زنزانة معزولة عن عالمه وعن حياة طبيعية كباقي أطفال العالم، وهو شرط مدير مصلحة السجون الذي انكسرت إرادة ظلمه أمام إرادة عطاف في احتضان عائشة.. "أن تبقى الأم وطفلتها في عزل سجن الرملة بعيدة عن باقي الأسيرات الى حين انتهاء حكمها".. وهذا الرجل يعلم تماما أن عطاف تقضي حكما بالاعتقال الإداري المهدد بالتمديد، هذا يعني أشهرا مفتوحة وربما سنوات لطفلة بعمر أشهر وأم في الثالثة والأربعين في زنزانة حافلة بكل أسباب المرض والبرد والعزلة..‏

ويروي وليد: "ودّعتها كما العادة، بعد ان علمنا عن طريق المحامي أن مصلحة السجون استجابت لمطلب الأم بعد 16 يوما من الإضراب التام عن الطعام بالسماح لها باحتضان طفلتها"، ويتيح القانون الصهيوني للأم الأسيرة احتضان طفلها حتى يبلغ من العمر عامين، ولكن تحت الظروف ذاتها التي تعانيها الأم دون ميزات تذكر.. "حتى ألعابها التي حاولت إدخالها معها أعيدت".. يقول الأب: "قالوا لعطاف ستعيش معك في هذه الزنزانة ولن تخرج منها إلا يوم انتهاء حكمك"..‏

عندما احتضنت عطاف طفلتها..‏

وعندما وافق مدير سجن الرملة على إدخال عائشة الى أمها، كان يشن ضدها حربا نفسية موازية أيضا كما قال وليد، حيث أخبرها عدة مرات أن عائشة لن تُدخل الا اذا كانت المحكمة العسكرية لديها النية في تمديد اعتقالك الإداري. ويبدو تخوف وليد واضحا في هذا الحديث، خاصة أن ما تبقى لعطاف في الأسر أقل من شهر ونصف الشهر، "كما أن حال الأسرى الإداريين وتكرار تمديدهم لا يبشر بخير"، كما يشير.‏

وكما نقل المشهد لوليد، فإن لقاء عطاف بطفلتها عائشة كان مشهدا دراميا.. حتى السجانات ـ وهن طائفة لا يظن الإنسان أن لديها عاطفة من أي نوع ـ أجهشن بالبكاء عندما ارتمت عائشة في أحضان والدتها، وكأنها إنسان مرت عليه السنوات.. كانت تلتصق بوالدتها وتقبلها بشوق عصي عن الوصف.‏

طائر بلا جناحيه..‏

اليوم يعايش وليد الوحدة في بيت بارد بمدينة رام الله، خال من زوجة عثر عليها بعد أعوام من الأسر، وعثرت عليه بعد حياة حافلة بالاعتقالات والإضرابات وكسر إرادة مصلحة سجون "اسرائيل"، وبعيداً عن طفلة أضاءت عتمة حياته بعد الزنازين.. وهو الذي لطالما كتب عن الأسرى وعذاباتهم وتجرع منها الكثير..‏

أصبح اليوم بطلا في قصة أطرافها جميعا أسيرة، وإن كان هو أسير صمت كما يصف نفسه، و"طائر فقد جناحيه"، وسط وحشة كبيرة نمت في هذا البيت منذ اعتقال عطاف أولا.. وبعد فقدان عائشة تاليا، كما يقول: "بت أشعر كأن أنفاسي متقطعة نزعوا مني جزءا كبيرا من روحي".‏

الانتقاد/ تحقيقات ـ العدد 1153 ـ 17 آذار/مارس 2006‏

2006-10-30