ارشيف من : 2005-2008

نحرهما الإرهاب الصهيوني في لحظة واحدة:طفلان شقيقان شهيدان

نحرهما الإرهاب الصهيوني في لحظة واحدة:طفلان شقيقان شهيدان

غزة ـ خضرة حمدان‏

على باب المنزل وبالقرب من السياج الحديدي المحيط بالزهور وأشتال الريحان والنعناع الأخضر، التف رفاقهما يودعون جثمانيهما وينظرون إلى رأسيهما الملتفين بنظرات وداع لن ترتد.‏

أما النساء ووسط بكاء أبكى كاميرات التلفاز والجموع الحاضرة، فلم يكدن يرين ملامح الطفلين الشقيقين محمود أحمد البطش (16 عاماً) ورائد أحمد البطش (ثمانية أعوام فقط)، لأنها ببساطة لُفت بعصابات بيضاء محشوة بالقطن وليس بداخلها سوى النزر اليسير من بقايا المخ والجمجمة والوجه.‏

والأم التي تحتفل نساء العالم اليوم بذكرى نهضتها المطالبة بالمساواة بين الجنسين، لم تستطع الوقوف على قدميها وهي تودع ابنيها وتبكيهما وتحتضن جسديهما الطاهرين. فالاحتلال لم يدع لها بقايا من طفليها لتودعهما، ولم يمهلها الكثير لتعتني بدجاجات طفليها والزهور، وأصابها بالصاروخ ذاته الذي أفقدها طفليها.‏

بكاء وصراخ ونقمة حاقدة على وحشية الاحتلال الذي قتل خمسة أطفال في غزة في خلال ساعتين وفي يوم واحد في السادس من آذار، وصرخات الوداع حملت معها بقايا دفاتر المدرسة وشهادات التفوق وصور الشهيدين الطفلين اللذين عُرف عنهما حب الصلاة والالتزام بالمسجد وإيقاظ الأقارب لصلاة الفجر والعناية بالزهور.‏

علا البطش (14 عاماً) شقيقة الطفلين تقول: "لا أعلم أين أذهب بحقيبتي شقيقيّ، ففيهما كل متعلقاتهما الدراسية.. هذه دفاتر المدرسة وهذه "كرّاسة" اللغة العربية، وهذه أوراق الامتحانات، فهل أضعهما في قلبي؟".. متسائلة عن الذنب الذي اقترفه شقيقاها ليتطاير جسداهما الطاهران فوق سطح المنزل بالقرب من الطيور التي اعتادوا على رعايتها وإطعامها، وفوق الأزهار التي حموها بالأمس من عبث العابثين.‏

الشقيقان الأكبر محمود والأصغر رائد اعتادا أن يكونا معاً ودوماً برفقة والدهما الذي أصيب إصابة خطرة بالصاروخ ذاته، وعلى باب المنزل ارتقت روحاهما البريئتان، وبالقرب من عتبة الباب صرخت والدتهما ولم تعد تتحدث بالمزيد عقب تأكدها من أن ابنيها قد غابا للأبد.‏

مشاهد الوداع لم تكن الأولى من نوعها لبقايا أجساد أطفال في قطاع غزة، أما والدة الطفل الشهيد الثالث في الشارع الرملي المتواضع نفسه أحمد السوسي (16 عاماً) الذي استشهد بجانبهما وقرب منزله المجاور لعائلة البطش، فلم تتمالك نفسها حين سمعت لحظات وداع أطفال الجيران منتظرة جثمان طفلها الذي عهدته دوماً باراً بها برغم عمره الصغير.‏

بقي من محمود ورائد وأحمد قليل من النكات والذكريات الحافلة بالطاعة والصلاة ودفاتر المدارس وأحلام لم تتحقق بالتخصصات الجامعية.. أحدهم طبيب وآخر متخصص بالتربية الإسلامية وثالث لم يوضح مساره بعد، سوى انه أحب الشهادة والالتحاق بابن خاله الأكبر.‏

عمة الشهيدين رائد ومحمود تتساءل بحرقة: "من الإرهابي.. هل هم أبناؤنا الأطفال الذين لعبوا في ساحة البيت، أم من يرمونهم بحمم من نيران، ويفتتون قلوب أقاربهم عليهم؟! فماذا تفعل الأمهات الثكالى والآباء المحرومون من فلذات أكبادهم؟ وماذا تفعل الزهور من بعدهم؟ وهل عاد لهذه الأوراق الخضراء أي معنى؟ أم هل للألوان معنى؟ فليس هناك معنى بعد لون الدماء وبقايا الأطفال الذين فقدوا الروح قبل أن يهنأوا بالحياة".‏

القصة الصغيرة التي تتكرر بشكل شبه يومي في قطاع غزة من شماله إلى جنوبه، أن الأطفال لم يعودوا آمنين لا في منزل ولا في شارع ولا حتى في روضة أطفال، والصواريخ الإسرائيلية التي يصفها أولياء أمور الأطفال بالعمياء لا تفرق بين طفل يزرع الورود وآخر يحتفل بطائرته الورقية على سطح منزله.‏

الشارع الذي سيفتقد الشهيدين محمود ورائد ـ كما تقول شقيقتهما ـ لكون محمود حرص يومياً على كنسه ورشّه بالماء وإزالة بقايا القاذورات منه لجعله طاهراً، يستقبل قصفاً مروحياً إسرائيلياً لسيارة قائدين في سرايا القدس، ولأن الشارع كزقاق صغير بين الشوارع الرئيسية في حي الشجاعية بغزة، لم يتوقع أحد أن القصف الإسرائيلي سينتهك حرمة أمان الشارع ويفتت أشلاء أطفال حفظوه غيباً، وتفننوا في تجميله واللعب في جوانبه.‏

وبخطه الجميل كتب رائد في دفتر اللغة العربية: "في عيد الأم ذهب فادي ولمى إلى السوق، وكانت الحركة في السوق نشطة، وكان باعة الأزهار ينتشرون في الشوارع والمحال التجارية التي تشهد نشاطا في البيع.. فادي اشترى باقة من الزهور، أما لمى فاشترت سواراً فضياً"..‏

وحتى يقدم فادي ولمى الهدية الى والدتهما في عيد الأم بعد أيام قليلة من هذا اليوم، تبقى والدة رائد ومحمود البطش تنتظر هدية السماء من طفليها الشهيدين..‏

الانتقاد/تحقيقات ـ العدد 1154 ـ 24 آذار/مارس 2006‏

2006-10-30