ارشيف من : 2005-2008
عملية تل أبيب: التخطيط الدقيق والتوقيت الموجع
جنين ـ علي سمودي
"قوافل الاستشهاديين قادمة وجاهزة للرد والمقاومة.. وليعلموا أننا نحب الشهادة والموت مثلما يحبون الحياة".. كلمات رددها الاستشهادي سامر سميح محمد حماد في الوصية التي سجلها على كاسيت فيديو وزعته سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، معلنة فيه تبنيها لعملية تل أبيب التي أدت لمقتل وإصابة العشرات من الصهاينة في ذروة الاستنفار الاسرائيلي والاحتياطات الامنية التي واكبت عيد الفصح اليهودي، والإنذارات الساخنة بنية حركة الجهاد تنفيذ عمليات. وظهر الاستشهادي الذي ارتسمت على وجهه ابتسامة، يحمل سلاحا ويتلو وصيته التي ترجمت إصرار حركة الجهاد على تصعيد المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وليؤكد ان المقاومة مستمرة في عملياتها وخرق التحصينات الإسرائيلية، بل سلسلة الاجراءات الصارمة التي اتُخذت. فقد اعترفت قوات الاحتلال بأنها تلقت انذارات متعددة حول التجهيز لعملية كبيرة, ولذلك نفذت عمليات متواصلة في منطقة جنين، وخاصة في المخيم، بدأت قبل وقوع العملية بأيام، وكانت لا تزال مستمرة حتى عندما فجر حماد نفسه في تجمع صهيوني لتكون العملية الثانية في الموقع نفسه خلال ثلاثة شهور.
أجهزة الأمن الاسرائيلية أعلنت انها فشلت في منع العملية برغم المحاولات الحثيثة التي اتخذتها في مخيم جنين، حيث نجح الاستشهادي حماد كما صرح أبو أحمد قائد سرايا القدس قائلا: "ان الشهيد سامر انطلق من مدينة جنين وهو يحمل حزاما ناسفا يزن 13 كيلو غراما من المتفجرات، واخترق كل الحواجز الاسرائيلية وفجر نفسه أمام أحد المطاعم في المحطة القديمة للباصات وسط مدينة تل أبيب، ما أدى الى وقوع عشرات القتلى والجرحى". وأردف: ان عملية تل أبيب هي الأولى في سلسلة عمليات ستنفذها السرايا التي شكلت مؤخرا في الضفة الغربية وأطلق عليها اسم "كتيبة الاستشهاديين"، وتضم "سبعين استشهاديا واستشهادية سيقومون بسلسلة عمليات في العمق الصهيوني في مناطق مختلفة في مواجهة حملة الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني.
وفيما انشغلت الأوساط الاسرائيلية في البحث عن كيفية نفاذ الاستشهادي الى موقع محصن وتفجير نفسه وتحقيق الهدف في وقت كانت حركة الجهاد تحتفل بشهيدها في مسيرات حاشدة نظمتها قي قرية العرقة غرب جنين مسقط رأس الاستشهادي، والتي كانت الهدف الأول للانتقام الاسرائيلي، إذ قامت قوات الاحتلال باعتقال والد الاستشهادي الأسير المحرر سميح حماد (52 عاما) عدة ساعات خضع خلالها للتحقيق من قبل جهاز المخابرات الذي كان يركز على الطريق الذي سلكه الاستشهادي وكيفية وصوله برغم الاحتياطات الأمنية التي اتخذتها قوات الاحتلال ووصلت إلى حد انتشار أكثر من ألف جندي صهيوني على طول حدود التماس مع الأراضي الفلسطينية.
الفخر والاعتزاز
في قرية العرقة التي تبعد 13 كيلومترا عن جنين حيث امتزجت مشاعر الفخر والاعتزاز مع دموع الحزن والألم بفقد أحد خيرة أبنائها، وفور شيوع نبأ العملية سارع أهلها الذين يعيشون كأسرة واحدة للتوافد على منزل عائلة حماد لمؤازرتها وتهنئتها بشهادة ابنها. فمشاعر الفخر والاعتزاز كبيرة، ولكن هناك مساحة من الحزن على فقدان الأحبة، وسامر كان أحب الابناء لعائلته.. وبينما التفت نساء القرية حول والدة وشقيقات الشهيد, فإن العشرات من الشبان تطوعوا لإخلاء المنزل من محتوياته تحسبا لقيام قوات الاحتلال بهدمه، ولكن هذا الانتقام كما تقول سامية حماد (45 عاما) والدة الاستشهادي لن يخيفنا، وتهديدات الاحتلال لن تخيفنا بعدما فقدنا ابني الذي أعتز ببطولاته، فقد كثر حديثه في الآونة الأخيرة عن الشهادة والشهداء، وتأثر كثيرا بمشاهد الموت والدمار التي صنعها الاحتلال في جنين ونابلس وغزة، وكان يردد دوما انهم قتلة ويجب معاقبتهم.. وقد قرر واختار بسرية ووحيدا، ولا نملك سوى ان ندعو الله ان يتقبل شهادته ويجعل مأواه الجنة التي كان يدعو الله أن يجعلها من نصيبه في كل صلاة ومناسبة.
وبينما كان بعض الشبان يرفعون رايات الجهاد الإسلامي في أزقّة القرية, افترشت سامية الارض, بينما كانت تتعالى الاصوات بعضها يبكي وأخرى تناشد الجميع ان لا يبكوا، لأن سامر رحل شهيدا في عملية بطولية كما قالت شقيقته، والشهيد يُفتخر به ولا يُبكى عليه. أما والدة الاستشهادي الاول في القرية نظير أبو حماد الذي نفذ قبل أربع سنوات عملية في العفولة، فجلست بجانب سامية تشد أزرها وتطلب من النساء ان يباركن لها ويهنئنها بشهادة ابنها. وقالت: لا نريد التعازي من احد ولا نريد الدموع، قدموا التهاني بسامر الذي رفع رأس كل فلسطيني عاليا.
الوداع الأخير
على بوابة منزلها انتصبت الأم تحمل صور الشهيد وهو يحمل سلاحا ويرسم نفس الابتسامة التي ظهرت في وصيته, وسرعان ما قاومت دموعها وقالت لمراسلنا: الله يرضى عليه عاش بطل واستشهد بطل.. لقد أيقظته صباحا كما طلب مني بعدما أمضى ليلته معنا من دون أن نشعر بأي شيء، وبعدما تناول فطوره ودعني وقبلني وقال إنه ذاهب لعمله، وكان هذا اعتقادي حتى سمعت اسمه في الأخبار، فبكيت لأني لم أشعر به ولم أودعه، ولكني على قناعة راسخة بأن سامر جسّد بطولة كبيرة، وأنا أعتز بعمليته، وأملي ان يكون كل شباب فلسطين أبطالا مثله ليدافعوا عن الحق الفلسطيني المغتصب.. الحمد لله على كل شيء، ولن نندم، فسامر بطل، وأدعو الله ان يسلحني بالصبر.. وأقول: اللهم ارضَ عنه واجعل مأواه الجنة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله".
سامر ليس إرهابياً
وبرغم قلقها وخوفها على مصير زوجها الذي اعتقلته قوات الاحتلال قالت إن ابني ليس ارهابيا، وما قام به عمل بطولي يتحمل مسؤوليته الاحتلال. وأقول للعالم إن الاحتلال السبب, لأنه لا يستثني أحدا من جرائمه ومجازره، وعملية ابني لا تستحق الإدانة بل الاحترام والتقدير، ولن نخاف المحتل وعقابه، وعلى العالم ان يتوقف عن الانحياز الى المحتل، ولن أسمح لأحد بوصف البطل سامر بالإرهابي". أما سميح البالغ من العمر 10 سنوات فجلس بين رفاقه يقبل صورة شقيقه ويقول إنه بطل كبير، ضحى بنفسه من أجلنا وفي سبيل قضيتنا، وأنا أفتخر به لأنه قام بواجبه ككل فلسطيني لزوال الاحتلال. ويضيف: في الفترة الأخيرة كان كل حديثه عن الشهداء وحبه للشهادة، ويتمنى ان يموت شهيدا.. والآن أدركت جوهر ومعاني كلماته بعدما اعتقدت انه كان يمزح.
والد الاستشهادي
وفي منزل مجاور لعائلة الاستشهادي احتشد رجال وشبان القرية حول والده الأسير المحرر سميح الذي أمضى عدة سنوات في سجون الاحتلال بتهمة المشاركة في أعمال المقاومة, وبعد خروجه من السجن كرس حياته لتربية أبنائه التسعة.. فأنا ـ كما يقول ـ أعمل موظفا في بلدية جنين، وبسبب ظروف الحياة القاسية اضطررت لإخراج سامر من الجامعة التي كان يحبها، حيث كان يدرس مادة خدمة المجتمع، وها هو يكرس حياته في سبيل شعبه وقضيته.
في ذلك المنزل اصطف طابور طويل من الأهالي الذين عانقوا والد الاستشهادي بحرارة، بينما كانت تمتزج لديه مشاعر الحزن بالفرح وهو يقول: لطالما عانينا من الاحتلال الذي اغتصبت سجونه سنوات طويلة من عمري, وقد قاسيت كثيرا لتوفير قوت أطفالي، خاصة ان الاحتلال منعني من العمل داخل أراضي الـ48.. ولكن سامر اخترق كل الحواجز ونفذ عمليته في سبيل وطنه وقضيته وشعبه، لذلك فمشاعري مزيج من الحزن والفرح، ومع ذلك أقول الله يرضى عنه ويتقبل شهادته. وأضاف: نعم سيكون هناك عقاب وغضب اسرائيلي، فقد اعتقلوني وحققوا معي، ولكن ابني بطل.
الوصية
وتعالت الهتافات في منازل قرية العرقة لدى عرض أجهزة الاعلام وصية سامر الذي صور شريطا قبل تنفيذه العملية، وهو أعلن أنه ينتمي لخلية الشهيد لؤي السعدي التابعة لسرايا القدس التي تنفذ العملية ردا على جرائم الاحتلال ومجازره وتأكيدا لاستمرار المقاومة"..
وبرغم قصر الوصية التي تلاها سامر وهو يحمل سلاحا وعلى جبينه عصابة سوداء كتب عليها سرايا القدس، فإنه أكد ان عمليته هدية للأسرى والمعتقلين القابعين في السجون الاسرائيلية بمناسبة يوم الأسير الفلسطيني.
بطل من السرايا
سامر هو الابن الخامس في عائلة حماد التي تتكون من 11 فردا، منهم ستة ذكور وثلاثة من الإناث. والدته قالت: منذ صغره كان شجاعا وذكيا ومحبوبا من الجميع بسبب حسن أخلاقه وطيب معشره, وقد درس في العرقة وحصل على التوجيهي بنجاح، وبعد فترة وجيزة من دخوله جامعة القدس المفتوحة تركها جراء الظروف المادية الصعبة التي نعيشها.. كان كتوما محبا لوطنه، وعاطفيا مرهف الإحساس, ولكنه كبر بسرعة وامتشق السلاح وانضم لقافلة الشهداء ببطولة وشجاعة، ليؤكد ان شعبنا لن يستسلم.
وبينما أصبح اسم سامر حكاية كل بيت في قرية العرقة، فإن الأهالي أجمعوا على التعبير عن إعجابهم به قبل وبعد استشهاده. أحد أصدقائه قال ان سامر شاب متدين وخلوق ومجاهد، كان من شباب المسجد ويداوم على اقامة الصلوات جميعها فيه.. كما أنه لم يتخلَّ عن ممارسة واجبه النضالي من خلال المشاركة في المسيرات والمواجهات، اضافه لنزاهته وحسن تعامله مع الناس.
وكانت العملية أدت الى مقتل تسعة إسرائيليين وإصابة أكثر من ستين آخرين, ما جعلها تحظى بمكان الصدارة في وسائل الإعلام العبرية.. فقد كتبت صحيفة "معاريف" في صحفتها الرئيسية خبراً تحت عنوان: "وجبة الغداء أصبحت كابوساً"، تناولت فيه قدرة الجهاد الإسلامي على تنفيذ عملية استشهادية أخرى في المكان ذاته الذي استهدفته منذ ثلاثة أشهر في عملية مماثلة وفي المكان ذاته!.
الانتقاد/ الحدث ـ العدد 1158ـ 21 نيسان/ ابريل 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018